ليلة
الكريستال في فلسطين وثلاثية "الإستعمار الحقير"
بقلم:
رولا بدران *
سبّل
عينيه الواسعتين ورحل متألماً … احترقت مقلتا محمد أبو خضير، الطفل الفلسطيني ابن
الخمسة عشر عاماً من بلدة شعفاط الواقعة شمالي القدس، تاركتين كل شخص يعرف عمق
الكرامة الإنسانية ويدرك تأصلها في الذات البشرية أمام سؤال مهمّ: هل تصالح يهود
إسرائيل مع ماضيهم الذي كرّسوا له السياسات والاقتصاد والقرارات الدولية للاعتراف
به، ماضي المحرقة؟ هل ساعدهم حفظ ذاكرتهم في مراكز أرشيفية عالمية، وترجمة تلك
الذاكرة إلى عدة لغات بهدف حشد التأييد لقضيتهم التي يبررون بها دوافعهم لاحتلال
أرض فلسطين وتحويلها إلى وطن غير أصيل لهم، على تجاوز ذاكرة العنف والتمييز
والعقاب الجماعي؟
في
الفاتح من جويلية 2014، أراد أحفاد ضحايا المحرقة، أن يتعرفوا على لذة جلادي
أجدادهم وهم يعذّبون ضحاياهم بكل سادية، فقامت مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين
بخطف الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، وتعذيبه وحرقه حيّاً، المسألة التي بينّها
تقرير النائب العام الفلسطيني محمد العويوي الذي استند بدوره على نتائج التشريح
الطبي بتاريخ 3 جويلية 2014 لجثة المغدور به، فأورد: « تبيّن من خلال التشريح وجود
مادة (شحبار) بمنطقة الرغامى (المجاري التنفسية) بالقصبات والقصيبات الهوائية في
كلتا الرئتين، مما يدل على استنشاق هذه المادة أثناء الحرق، وهو على قيد الحياة ».
بعد حرقه والعبث بجثته التي غطت الحروق حوالي 90 بالمئة من مساحتها حسب نفس
المصدر، رمى المستوطنون فتى فلسطين في أحراش دير ياسين، ربما للتذكير بأن جرائمهم
بحق أهل فلسطين بدأت من هناك، فجمعوا بذلك تاريخهم في واقعة وصفها نتنياهو، في
تصريح نُشر بتاريخ 4 جويلية 2014، بأنها « القتل الحقير ». فهل أن فعل الحرق يمثل
عملاً منعزلاً كما تحاول أن تبرزه الحكومة الإسرائيلية وأدواتها، أم أن هناك إطارا
من الحقد انتشر في اسرائيل يهيئ لما هو أتعس كما هيأ الاستخفاف بالدعاية
اللاّسامية في الثلاثينيات في أوروبا إلى ما وقع أثناء الحرب العالمية الثانية وما
قبلها؟
وبالحديث
عن الحقد المتنامي والكراهية، نجد أن ذلك انعكس مؤخراً في أداء السلطات
الإسرائيلية من خلال إعطاء نفسها مشروعية فرض العقاب الجماعي مرة أخرى على
الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومن ثم في غزة، وذلك بعد شيوع خبر اختطاف ثلاثة
مستوطنين في 12 جوان 2014، وهو ما يؤكد عدم تجاوزهم للماضي بل وعلى العكس، تكريس
الذاكرة من خلال رقنها في كل ما هو فلسطيني، سواء كان بشراً أو شجراً أو حجراً أو
تراباً، فجعلوا من حادثة اختطاف المستوطنين المستنكرة وردة الفعل الإسرائيلية
عليها، الرسمية والشعبية، ما يشبه « ليلة الكريستال » في ألمانيا "Kristallnacht” وهي ليلة بدأت يومي 9 و 10 نوفمبر 1938 ومثلت آنذاك ردة الفعل
الشعبية والرسمية على اغتيال الدبلوماسي الألماني إرنست فوم رات (Ernst von Rath) في باريس في 7 نوفمبر 1938 برصاص أطلقه هرشل غرينشتاب (Herschel Grynszpan)، وهو شاب بولندي يهودي كان يبلغ من العمر 17 عاماً … في « ليلة
الكريستال » وبعد إعلان وفاة الدبلوماسي الألماني، اجتمع قادة الحزب النازي
وأعلنوا يوم 9 نوفمبر، وهو يصادف ذكرى الانقلاب النازي الفاشل لعام 1923، يوم
العداء المفرط للسامية … حطم زجاج محلات اليهود في ألمانيا، أحرقت بيوتهم
ومعابدهم، وطرد الآلآف منهم، وتحولت مقابرهم إلى مكان لإهانة الجثث.
رغم
كل ما قاموا به حتى الآن على أرض فلسطين، لم يستطع الإسرائيليون أن يتجاوزوا
ماضيهم، فكرّسوا في كيانهم ممارسات الاستعمار والديكتاتورية عبر انتهاجهم ثلاثية
التمييز والعنف والعقاب الجماعي. يدرك الإسرائيليون، مستوطنين ورجال دين وسياسييّن
في السلطة وحولها، أن « ليلة الكريستال » عام 1938 كانت نقطة تحول لليهود في
أوروبا، واليوم هم خائفون أن تمثل فاجعة « القتل الحقير » لمحمد أبو خضير نفس نقطة
التحول خاصة مع مظاهر الغضب الشعبي في شوارع فلسطين الذي يذكّر الإسرائيليين
بانطلاق الانتفاضة الثانية. لقد وجد الإسرائيليون في اعتراف القوى الدولية الكبرى
بهم كضحايا مدخلاً لحشد التأييد خاصة أثناء الحروب والأزمات، وقد ساهم الاهتمام
بتاريخ وذاكرة الحرب العالمية الثانية في خلق ديناميكية لا تتوقّف لهذا الاعتراف.
وهنا نستنتج بأن الذاكرة والبحث في ثناياها مفتاح لفهم السياسات العامة. لذلك آن
لنا أن نقوم بتثمين أماكن الذاكرة « Les lieux de mémoire
» حسب تعبير المؤرخ وعضو الأكاديمية الفرنسية بيار نورا (Pierre Nora)، دون الدخول في فخ تنافس الضحايا. وهنا تتجلى أمام الفلسطينيين
فرصة تاريخية للمقاومة الجماعية، وعلى كافة المستويات، من أجل تقرير المصير ووضع
حد لثلاثية « الاستعمار الحقير ».
* كاتبة
وناشطة فلسطينية