مآلات التهديد الإسرائيلي ضد غزة
بقلم: عدنان أبو عامر
بعد مضي ما
يقرب من 150 يوماً على الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وفي زحمة الانشغال
بملفات إقليمية ضاغطة، تبدأ بسوريا المشتعلة، وتمر بلبنان الذاهب نحو الانفجار،
ولا تنتهي بإيران التي سيصلها حطام ما سيحصل في الساحتين السابقتين، ظهر التوتر
الأمني في قطاع غزة، بدون مقدمات، بعد أن سقطت على مدينة إيلات الساحلية رشقات من
الصواريخ، لترد إسرائيل بقذائف صاروخية، وتطلق تهديدات نارية ضد حماس، مهددة إياها
بشن حرب جديدة.
أسباب التهديدات
ما إن سقطت الصواريخ على إيلات قبل أيام، وهي الملاصقة
للحدود العربية الثلاثة: مصر والأردن وغزة، حتى بادر قائد أركان الجيش الإسرائيلي
"بيني غانتس" للتهديد بأن تواصل رشقات الصواريخ سيضطر تل أبيب للرد بطرق
مختلفة، ولن تتردد في القيام بعملية على غرار "عامود السحاب"، بل وأكثر
شدة، فيما قدم "عاموس غلعاد" رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة
الدفاع احتجاجاً إلى مصر، بسبب ما قال إنه خرق لاتفاق التهدئة التي أشرفت عليه في
نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
وقد لاحظت أوساط عسكرية إسرائيلية أن الجيش يواجه مصاعب
في غزة لا تنبع فقط من ضعف المعلومات الاستخبارية، بل أساساً من غياب القدرة على
ترسيخ ردع في مواجهة الجماعات المسلحة، فهي لا تمتلك عناوين، ولا مرتكزات يمكن
تهديدها باستهدافها، معتبرة أن صواريخ إيلات تشير لما وصفته بـ"علامات الزمن
الراهن"، حيث الفترة غير المستقرة، التي غدت فيها التعبيرات القديمة عن
الردع، كالإنذار وموازين المصالح المتبادلة غير صالحة، بالقدر الذي كانت فيه طوال
السنوات السابقة.
ومع ذلك، فإن مجمل التهديدات والإنذارات الإسرائيلية نحو
غزة مردها إلى أن إطلاق الصواريخ نحو إيلات يعتبر تحدياً أمنياً معقداً على نحو
خاص من ناحية إسرائيل، وإشكاليا أكثر من الصواريخ المنطلقة نحو النقب، انطلاقاً من
عدة اعتبارات.
فـ"إيلات" مدينة استجمام، تجتذب كل سنة مئات
آلاف الإسرائيليين، والسياح من الخارج، وتحول النار عليها لتصبح متوترة من شأنه أن
يوجه ضربة موت اقتصادية لها، وهي إشكالية بقدر لا يقل أنه من الصعب خلق ردع يؤدي
لوقف النار من الأراضي المصرية.
ولذلك توصي الدوائر العسكرية بتحقيق الردع ضد الأجنحة
المسلحة عبر خلق تهديد على الطرف الآخر، كالثمن الذي دفعته حماس أثناء حملة
"عمود السحاب".
تكرار الحرب
وبعد مضي أكثر من أسبوع على سقوط الصواريخ على إيلات، ما
زالت المنظومتان الأمنية والعسكرية في إسرائيل منشغلتين فيها، مع خشية بأن تكون
مقدمة لصواريخ أخرى، خاصة وأنها المرة السابعة في السنوات الثلاث الأخيرة التي
تتعرض فيها المدينة للقصف، في ظل ما يتوافر من معلومات استخبارية مفادها تواجد 5-6
منظمات للجهاد العالمي بسيناء مرتبطة بنظيراتها في غزة، ويحاولون طوال الوقت تنفيذ
هجمات ضد أهداف إسرائيلية.
ولذلك فإن تسارع الأحداث الميدانية على حدود قطاع غزة،
تدفع بالمراقبين لتوقع اندلاع شرارة مواجهة جديدة مع الجيش الإسرائيلي بين لحظة
وأخرى، في ظل ما أعلنه عدد من جنرالاته عن استعدادات عسكرية لعملية جديدة، من خلال
تجهيز جنودهم، وتحسين مستواهم التدريبي، وتعديل وتجديد الخطط المختلفة، وتدريب
وتجهيز العتاد المطلوب، ليكونوا على أهبة الاستعداد للعمل في غزة بوتيرة
"أقوى من الماضي، وأشد قسوة".
علماً بأن أحاديث الجنرالات في الأروقة المغلقة، مرتبطة
بتقديراتهم التي تشير إلى أن قوة ردع الجيش إثر عملية "عمود السحاب"
بدأت بالتراجع، بالتزامن مع محاولة عدد من المنظمات الفلسطينية تنفيذ عمليات ضد
الجيش، في الوقت الذي تحاول حركة حماس السيطرة على الوضع، ومنع تدهور خطير في
المنطقة، رغم تغاضيها أحياناً عن بعض نشاطاتها.
ولعل المراقب للمشهد الإسرائيلي يرى بأم العين حجم
التهديد والتحريض المتواصل ضد غزة، بما ينذر على أنه "تهيئة" الرأي
العام لأي مواجهة قد تندلع بين لحظة وأخرى، ومنها مطالبة الجيش أكثر من أي وقت مضى
بالشروع في بعض الإجراءات، قبل التوجه فعلياً نحو حرب جديدة، ومن أهمها:
1- التوضيح لحماس ليس بالأقوال بل بالأفعال، أنها بتواصل
إطلاق النار ستجبي ثمناً باهظاً.
2- مواصلة تحصين المستوطنات بإنشاء غرف أمنية محصنة لخلق
شعور الأمن لدى الإسرائيليين.
3- تطوير أنظمة تكنولوجية على شاكلة منظومة "القبة
الحديدية".
4- إن لم تنفع جميع تلك الخطوات، يجب القيام بعملية أخرى
في غزة.
تأتي هذه التهديدات، وقرع طبول الحرب ضد غزة، في ظل
"تآكل" ترتيبات وقف إطلاق النار، واستمرار حماس في فحص مدى صبر إسرائيل،
لا سيما في ضوء خشية الجهات العسكرية من محاولتها التقليل من الردع الذي أنتجته
الحرب الأخيرة.
وتشهد الحدود الشرقية والشمالية والجنوبية لقطاع غزة
تحركات ميدانية ملحوظة أكثر من أي وقت مضى، لدرجة قد تدفع الواحد منا للتكهن بأن
ثمة قرارا ما اتخذ، أو قد يتخذ، خلال الفترة القريبة القادمة يخص الشريط الساحلي
على القطاع.
ومما ساعد في زيادة رصيد هذه التكهنات، التحركات المكثفة
التي يقوم بها الجيش، والنشاطات الميدانية التي تجريها وحداته القتالية، والتجارب
التي تعلن عنها قوات الدفاع المدني في الجبهة الداخلية على صفارات الإنذار، ما
يعني أن قطاع غزة بات أمام تحرك قد يبدو "سريعاً".
علماً بأن الصورة الأوضح لقرع طبول الحرب، تكمن في
العمليات الجارية بشكل محموم لفتح "مسارات" جديدة للمدرعات، لتحقيق هدف
تنظيف المنطقة بما يمنع تنظيمات المقاومة من زرع عبوات ناسفة ومتفجرات في طريق
وحدات الجيش والدوريات المنتشرة على طول الحدود، واستهدافها بعمليات تفجيرية،
وتجهيزها لتسهيل سير المدرعات في حال صدرت الأوامر بعملية عسكرية، والإعلان أن
العمل في المنطقة يتواصل على مدار الساعة، لأنها تعيش في حرب استنزاف، وعملها لا
يتوقف، والحاجة تتطلب أن يبقى الجيش متيقظاً.
كما شهدت قاعدة تدريب في المنطقة الجنوبية، تدريبات
تشارك فيها وحدات من سلاحي المدرعات والجو، للتنسيق بينهما، في حال تقرر تنفيذ
عمليات تتطلب غارات جوية بمساعدة المدفعية وأجهزة المراقبة.
وبرغم الأجواء التي تفوح منها رائحة التصعيد العسكري، فإن
التصريحات التي يطلقها مسؤولون عسكريون وسياسيون وخبراء أمنيون في إسرائيل تظهر
"تناقضات في التوقعات والنتائج"، فهناك من يحسم بأن حماس غير معنية
اليوم بتوتر عسكري، ويعتبر الأوضاع التي تسود المنطقة هادئة، لكن هناك من يعتبر أن
هذا الهدوء لمصلحة حماس التي تستغله لمواصلة تعزيز قدراتها العسكرية، فيطالب بالرد
القاسي عليها، وتحميلها مسؤولية أي تدهور في المناطق الجنوبية.
وطالما أن قرار الضربة العسكرية في غزة ما زال مؤجلاً،
فإن التقارير الإسرائيلية ما زالت في مرحلة التخمينات، حيث ترى الأجهزة الأمنية
الإسرائيلية أن الهدوء يغطي على استمرار عملية تسلح حماس، والبناء المتجدد
للتحصينات، والأهم، تثبيت حكمها في القطاع، ومن الواضح أن إسرائيل مقتنعة، بأن
الحركة استكملت على المستوى العسكري عملية استخلاص الدروس من جولة القتال الأخيرة،
وأغلقت فجوات، وأصلحت نقاط خلل اكتشفت في المواجهة مع الجيش.
العامل الإقليمي
بادرت إسرائيل بإطلاع مصر على إطلاق الصواريخ الأخيرة
تجاه إيلات، وإمكانية قيامها بتوجيه ضربات عسكرية مدروسة، وتصعيد عملياتها
المنهجية ضد المنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، دون اللجوء لمواجهة مباشرة في
المرحلة الحالية.
وقد تشمل تلك العمليات توجيه ضربات نوعية لمخازن التسليح
وطرق نقل الأموال، وتشديد الضربات على أنفاق رفح التي تستخدم لنقل الأسلحة إلى
قطاع غزة، رغم تشديد رقابة الجانب المصري، ومن المحتمل أن تمتد ما وصفتها
بـ"الضربات الاستباقية" إلى خارج حدود غزة، وأقصد بذلك سيناء بصورة
خاصة.
يأتي ذلك في ظل ما أبلغته تل أبيب للقاهرة بقلقها مما
يحدث على حدود غزة، ونيتها عدم السماح بتهديد أمنها، ولو أدى الأمر لتنفيذ عملية
واسعة في القطاع عقب قصف مدينة إيلات، خصوصاً وأن دقة تصويب الصورايخ، التي دلت
على مهارات تدريب عالية تم اكتسابها خارج القطاع، أثارت انزعاج القيادة العسكرية
الإسرائيلية، فضلاً عن إخفاق منظومة القبة الحديدية في التصدي لها.
يتزايد دور العامل الإقليمي في الحراك الإسرائيلي تجاه
غزة، في ظل ما تعتبره تل أبيب رغبة المنظمات المسلحة في قطاع غزة بمحاولة اختبار
قوة الجيش الإسرائيلي في ظل التطورات المتسارعة في المحيط العربي، وسقوط أنظمة حكم
أقامت علاقات سرية وعلنية مع الكيان.
ولذلك، خرجت تسريبات إسرائيلية بشأن وجود خطة عسكرية
سرية لضرب غزة، لكنها أثارت الكثير من الجدل بين العسكريين في ظل وجود مخاوف من
الرد المصري، خاصة مع انشغال وحدات الجيش المصري بالأوضاع الأمنية الداخلية،
ومنحها الأولوية المطلقة دون غيرها، مما وفر للفصائل الفلسطينية نجاحاً في استغلال
الغياب الأمني على الحدود مع مصر، وأدخلت الكثير من القطع والتقنيات العسكرية
المتميزة التي تؤهلها لمواصلة عملياتها، مما يجعل من المبادرة لضرب قطاع غزة أمراً
حيوياً وضرورياً لأمن إسرائيل.
اللافت في الأمر، أن الأوساط الإعلامية الإسرائيلية
أشارت صراحة إلى غضب القاهرة الشديد من تلويح تل أبيب بضرب غزة، من خلال رفضها
التعليق على مساعي توجيه الضربة، في تلميح إلى تخوف إسرائيلي من إمكانية أن يرد
المجلس العسكري الموجود على رأس السلطة في مصر بقوة على إسرائيل إن بادرت بضرب
غزة، سواء على المستوى السياسي أو الدبلوماسي، مما أوجد تردداً داخل تل أبيب بشأن
القيام بهذه الضربة.
لكن محافل أمنية واستخبارية حملت الحكومة الحالية عدم
القدرة على معالجة التوتر الأمني في مناطق الجنوب، وما أسمته القرار البائس
بالامتناع عن إسقاط سلطة حماس، رغم أن الظروف على الصعيد الدولي مثالية.
أخيراً فإن التطورات الإقليمية المتسارعة هي وحدها التي
قد تمنع عملية عسكرية إسرائيلية ضد غزة، خاصة في الظروف الحالية، على اعتبار أنها
قد تفضي لتورط مسلح مع مصر، مباشر أو غير مباشر، وتحديداً ما قد يحدث من رد فعل
غير محسوب في سيناء، وتصرف الانتباه عما يجري في سوريا، ومواجهة إيران، مما سيضطر
إسرائيل في الظروف الراهنة لاستيعاب عمليات مسلحة، بحيث يكون ردها معتدلاً، دون أن
يحقق ردعاً من عدم استمرارها.
الجزيرة.نت، الدوحة، 2/5/2013