مأساة الهجرة الفلسطينية كما عالجها
غسان كنفاني
بقلم: سليمان الشّيخ
المعلومات المتداولة التي واكبت غرق
أو إغراق سفينة الهجرة غير الشرعية التي كانت تقل نحو 500 من الرجال والنساء
والأطفال في البحر الأبيض المتوسط في العاشر من أيلول/سبتمبر من هذا العام، في
منطقة من البحر تقع بين مالطا وإيطاليا واليونان، لا زال يكتنفها غموض في كل محطة
من محطات سيرها وتنقلها ووقوفها. فهل كل الذين كانوا فيها هم من فلسطينيي غزة؟ وهل
انطلقوا بعد أن عبر بعضهم معبر رفح، أو تم تهريبهم عن طريق الأنفاق، وتابعوا
رحلتهم إلى سيناء، ثم إلى أحد الموانئ المصرية: الاسكندرية أو دمياط؟ وهل التحق
بهم مصريون وسوريون وسودانيون وغيرهم؟ وما حكاية الطلب منهم من قبل المهربين
الانتقال إلى مركب آخر، ولما رفضوا الطلب بعد أن تبين لهم صغر ذلك المركب، قام
المهربون بصدم المركب الذي يقلهم وأغرقوه.. وهم يقهقهون؟ ليتبين بعد ذلك وبحسب بعض
المصادر الإعلامية، أنه لم ينج إلا عشرة من الفلسطينيين. فما الذي حل بالباقين؟
وهل أنقذت بعضهم سفن مالطا واليونان وإيطاليا وغيرها، أو غرق أغلبهم وأصبحوا طعاما
للسمك والحيتان؟
إنها واقعة مأساوية محيرة، لكنها ما
زالت تتكرر بين فترة وأخرى، ما دامت أسبابها قائمة: من حصار ودمار وفقر وتشريد
وبطالة وعدم أمن وأمان، وخوف من تجدد المعارك، والدخول في معاناة قاتلة لا توفر
أحدا، ومن تضييق على الحريات وغيرها. هذا القطاع، أي قطاع غزة الذي يحتل جانبا من
الشريط الساحلي من جنوب فلسطين، وتبلغ مساحته نحو 365 كلم2، وفيه ثلاث مدن هي غزة
وخان يونس ورفح، ويحتوي عشرات البلدات والقرى والمخيمات، يبلغ طول القطاع نحو 25
ميلا، ويراوح عرضه بين أربعة أميال في الشمال وثمانية أميال في الجنوب، وقد تضاعف
عدد سكانه ثلاث مرات من 80 الفا سنة 1947 إلى نحو 240 ألفا في نهاية حرب العام
1948، الأمر الذي أوجد مشكلة إنسانية ضخمة من عشرات آلاف اللاجئين المنحشرين في
منطقة بالغة الصغر» بحسب ما جاء في كتاب «أرض أكثر وعرب أقل» للدكتور نور الدين
مصالحة.
لذا كيف يكون الانحشار عندما يبلغ
عدد السكان نحو مليون و800 ألف نسمة، وما المشاكل والمتطلبات والاحتياجات الهائلة
التي يولدها هذا العدد الهائل من الناس؟ فهل الحل في الهجرة والهروب واللجوء إلى
المجازفة وقذف الأجساد حتى لو في بحر عاتي الأمواج، أو في تسليم النفوس إلى عصابات
المهربين التي لا ترحم؟ أم أن هناك اجتراحا لحلول قد تكون من صنف المعجزات، في
البحث عن آفاق تتجاوز الانسحاق، تحت سنابك وعقابيل المشاكل المعقدة والمتراكمة؟
في «أرض البرتقال الحزين»
كيف عالج غسان كنفاني، هذا الأديب
الفلسطيني الذي «كأن تجربة المأساة قد تجسدت في موهبته كي يتولى التعبير عنها»؟
كما كتبت الأديبة اللبنانية ليلى عسيران، وكتب الأديب السوري علي الجندي ايضا:
«تبدو قضية فلسطين عند غسان أشد حرارة وزخما، إنها مشكلته وقضيته الشخصية بقدر ما
هي قضية عامة وقومية». وقد جاء في قصة «ورقة من غزة» المكتوبة عام 1956 والمنشورة
في مجموعة قصص «أرض البرتقال الحزين» الصادرة في عام 1963 ما يلي: «لكنني كنت أحس
إحساسا غامضا أنك غير راض تماما عن هروبك، لم تكن تستطيع أن تعدد ثلاثة أسباب
وجيهة لهذا الهروب. وكنت أعاني أنا ايضا من هذا التمزق، ولكن الشعور الأوضح كان:
لماذا لا نترك هذه الغزة ونهرب.. لماذا؟» (ص 66 من الطبعة الأولى).
إلا أن عدوان الاحتلال الصهيوني خلق
التحدي واستجابة الرد، « وفي منتصف ذلك العام، ضرب اليهود مركز الصبحة – في
خمسينات القرن الماضي – وقذفوا غزة، غزتنا بالقنابل واللهب، كان يمكن أن يغير لي
هذا الحدث شيئا من الروتين، لكنه لم يكن لي ما آبه له كثيرا. فأنا سأخلف هذه الغزة
ورائي». إشارة إلى أن ترك المخيمات، يعتبر من أنواع التخلي في خمسينات القرن
الماضي – زمن كتابة القصة – عام 1956 – ويعتبر التارك كجندي تخلى عن واجبه، كون
البقاء يعتبر من أنواع التضامن والتكافل ووحدة الحال بين الأفراد والجماعات، في
نكبة خلطت المكون الفلسطيني ووحّدته. وماثلت في أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية
والطبقية إلى حد كبير.
يمضي الكاتب في استكمال قصته عن غزة،
فيذكر «أنت تعرف يا مصطفى هذه الأحاسيس، لأنك عشتها فعلا، ما هذا الشيء الغامض
الذي كان يربطنا إلى غزة، فيحد من حماسنا إلى الهروب؟» (ص 68)
إلا أن اختلاط المآسي وتوزعها بين
الخاص والعام، حد من التوجهات الفردية للبحث عن خلاص ذاتي، وأورث توجها مختلفا:
«ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء الأبيض، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ.
لقد قالوا لي أن ناديا فقدت ساقها عندما ألقت بنفسها فوق إخوتها الصغار، تحميهم من
القنابل واللهب وقد أنشبا أظافرهما في الدار، كان يمكن لناديا أن تنجو بنفسها، أن
تهرب.. أن تنقذ ساقها، لكنها لم تفعل» (ص 72).
كان ذلك من أنواع الهزة التي أعادت
التفكير إلى سويته، والعقل إلى رشده: «كنت أشعر إنها بداية فقط، كنت أتخيل أن
الشارع الرئيسي، وأنا اسير فيه عائدا إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل
طويل يصل إلى صفد، كل شيء كان في غزة هذه ينتفض حزنا على ساق ناديا المبتورة من
أعلى الفخذ، حزنا لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدي، بل وأكثر من ذلك، إنه شئ
يشبه استرداد الساق المبتورة» (ص 72).
ويختم: «لن آتي إليك، بل عد أنت
إلينا، عد، لنتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ، ماهي الحياة.. وما قيمة
الوجود» (ص 73)، فكم وكم من اعضاء الجسد بترها وقصها وأنهى وجودها العدوان الأخير
على غزة؟.
«رجال في الشمس»
يتحاور أبو قيس مع سعد، الذي يحاول
إقناعه لمشروع «الهروب والهجرة»، بعد أن أجبرته القوات الصهيونية وأجبرت غيره من
الفلسطينيين، على ترك ديارهم وأملاكهم، وحولت حياتهم إلى مأساة، فيعلق مستنكرا
«إنها مغامرة غير مأمونة العواقب»!. فيجيبه سعد «إذا وصلت إلى الشط – شط العرب –
بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى
هناك عبر الصحراء» (ص 19) من رواية رجال في الشمس الطبعة الثانية.
وفعلا فإنها كانت «مغامرة» غير
مأمونة العواقب. لقد حشر أبو الخيزران شخصيات ثلاث في خزان الشاحنة، إلا أن حر
الصحراء الشديد وطول مدة البقاء داخل الشاحنة، كتم انفاسهم وقضى عليهم واحدا تلو
الآخر، على الرغم من أنهم دقوا ودقوا ودقوا جدران الخزان، وصاحوا وصاحوا، لكن لم
يكن هناك من يسمع أو ينقذ! لقد ضلوا «الطريق» طريق الصمود، أو البحث عنها، فضاعوا
وتاهوا!، «كان الظلام شديدا في الداخل، حتى إنه لم يستطع أن يرى شيئا بادئ الأمر،
وحين نحى جسده بعيدا عن الفوهة، سقطت دائرة ضوء صفراء إلى القاع وأضاءت صدرا يملأه
شعر رمادي كث أخذ يلتمع متوهجا كأنه مطلي بالقصدير – صدر أبو قيس – انحنى أبو
الخيزران ووضع أذنه فوق الشعر الرمادي المبتل، كان الجسد باردا وصامتا» (ص 88).
يمضي الكاتب في تأكيد حدوث المأساة،
ويروي بعض التفاصيل الصادمة والموجعة «اعتمد على ذراعيه، وانزلق إلى الداخل بخفة –
داخل الخزان – كانت الجثة الأولى باردة صلبة، ألقى بها فوق كتفيه، أخرج الرأس أولا
من الفوهة، ثم رفع الجثة من الساقين وقذفها إلى فوق وسمع صوتها الكثيف يتدحرج فوق
حافة الخزان، ثم صوت ارتطامها المخنوق على الرمل» (ص91) ليأتي السؤال الجارح بعد
ذلك: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لقد دقوا ودقوا بكل ما يملكونه من قوة, كما ان
ركاب المركب لم يتركوا وسيلة إلا وفعلوها كي يسمع من يمكن أن يسمع، أو يرى من يمكن
أن يرى، أو ينقذ من يمكنه الانقاذ!.
كان فحيح المهربين يعلو على أصوات
الأمواج المتلاطمة، وعلى أصوات النوارس وهي تزعق في الفضاء الرحب، وازدادت
قهقهاتهم وأصواتهم السامة: لا عاش من يتحدى المهربين! لا عاش من يتحدى المهربين!.
وكان الجنود الصهاينة يرددون الكلمات نفسها. مدموجة بقذائف الموت والدمار، لتتكرر
بين فترة وأخرى محاولات الخنق والحصار. مع ذلك وعلى الرغم من بشاعة الاحتلال وبطشه
وبربريته ووحشيته، فإنه كان هناك ودائما من يجترح معجزات الصمود والمقاومة، وتجاوز
حالات الانسحاق، ثم الانتفاض من بين الركام والرماد.
المصدر: القدس العربي