مؤامرة «التوطين» وتوطين «المؤامرة»
بقلم: عريب الرنتاوي
لم نكن بحاجة لـ”نصيحة” أي مسؤول أمريكي ودولي، لكي نكتشف أن ثمة في إسرائيل بدايةً، وفي أوساط حُماتها ورعاتها، من يريد أن يحل القضية الفلسطينية خارج فلسطين، وعلى حساب فلسطين والأردن معاً...ذلك أن انسداد فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة، وانحسار خيار عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شُرّدوا منها، يفتح الباب دائماً أمام حلول أخرى، لم تنفك إسرائيل، وبالذات تيارات اليمين الديني والقومي الصاعدة فيها، عن تطويرها وتكييفها مع مستجدات الوضع الإقليمي والدولي المتغير.
لكننا نريد أن ننطلق في مواجهة هذا الخطر، الكامن أو الداهم (لا نريد أن نختلف هنا)، من حالة التشخيص المجرد، إلى وضعية المواجهة الاستباقية، أو أقله الاستعداد لهذه المواجهة، الآتية (لا ريب فيها)، فهل بالإمكان بناء أجندة وطنية أردنية موحدة، حول هذه النقطة، لكي نبني على الشيء مقتضاه، وننطلق في ترجمة خطة عملنا الوطنية التوافقية، لإحباط هذا المسعى، وقطع دابر المتآمرين، بأي لسان نطقوا؟
في ظني أن الجواب الفوري بالإيجاب عن هذا السؤال، هو أول ما يخطر بالبال ابتداءً...ولا أحسب أنني أصدر فيما أذهب إليه، عن شعور ساذج بالتفاؤل، بل من رؤية واقعية لفرص بناء أجندة وطنية مشتركة، تنهض على الأسس التي سبق وأن ذكّرنا بها في غير مناسبة، ونختصرها الآن على النحو التالي:
أولاً- ليس ثمة ما يدعو للقلق والخوف على "الهوية الوطنية الأردنية”، أمر هذه الهوية المفتوحة على مختلف مكوناتها، والمُغتنية بها، أمرٌ محسوم لدى مختلف المنابت والأصول والمكونات، طالما أنها هوية ناهضة في مواجهة الآخر، والآخر هنا هو حصراً، العدو القومي للأردن وفلسطين معاً، ومن نافل القول، ان هوية تنشأ في هذا السياق والمعمان، هي هوية تقدمية وإنسانية، مؤتلفة مع الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، ومتحالفة معها في مواجهة التهديد المشترك ذاته، وهي بالقطع ليست هوية موجهة ضد الشريك في الوطن، كما يسعى البعض منّا لحرفها أو تصوريها، في وصفة للخراب وعدم الاستقرار....والهوية الأردنية هنا، من باب تأكيد المؤكد، هي مصلحة وطنية عليا للفلسطينيين قبل أن تكون كذلك للأردنيين جميعاً.
ثانياً- إن الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي، بما هو مشروع حياة أو موت بالنسبة للأردن، كما هو الحال بالنسبة لمختلف الدول العربية، لا يتعارض أبداً مع مقتضيات التصدي للمشاريع المشبوهة، أياً كان الاسم الذي تتستر من ورائه....إنه مشروع المواطنة المتساوية، مصدر الحقوق والواجبات، الذي يحفظ الهوية، ويكفل تجسيدها لإسهامات مختلف "الروافد” المكوّنة لها، هو نقيض الإقصاء والتهميش، أياً كانت أشكاله وأداوته، سياسية أم حقوقية أم اقتصادية – اجتماعية، لذا الحذر الحذر من محاولات تعطيل هذا المشروع بحجة "درء المخاطر” و”سدّ الذرائع”....فالأردن القادر على إحباط هذه المؤامرات الكامنة أو الماثلة، هو الأردن الوطني الديمقراطي، الذي يتسع لجميع أبنائه من دون ضيم أو تمييز، وهو الأردن المتحالف مع الشعب الفلسطيني بمختلف قواه وشخصياته ومؤسساته الوطنية والإسلامية الفلسطينية، المناضلة في سبيل العودة والحرية والاستقلال.
ثالثاً- إن التصدي لهذه الأطماع، الظاهرة والمخفية، لا يتأتى إلا بإعلاء صوت "حق العودة”، وإخراجه من الصدور التي تحتبسه إلى فضاءات الحراك الشعبي المدعوم من مختلف مكونات الشعب والدولة في الأردن...فكلما علا صوت "حق العودة”، كلما خمدت الأصوات المشبوهة التي تبحث عن حلول لقضية الشتات واللجوء وتقرير المصير، من كيسنا جميعاً، نحن الأردنيين والفلسطينيين على حد سواء، وأحسب أن تقصيراً استراتيجياً قد وقع في هذه الخانة بالذات، على أن أمر تداركه ما زال في أيدينا جميعاً....وحق العودة كما نصت على ذلك فلسفة وحدة الضفتين ونصوصها السياسية والحقوقية، لا يسقط بالتقادم، وهو مسؤولية الدولة حيال جزء من شعبها، وهو -وهذا مربط فرس آخر هنا- لا يستلب حقوق المواطنة أو أيا منها.
رابعاً- الأردن أردن، وفلسطين فلسطين، هذه هي المعادلة التي يجب العمل عليها وتكريسها من دون خلط، وهذا يعني أن فك ارتباط الضفتين لا يعني بحال فك ارتباط الدولة بمواطنيها، أو من ظلوا من مواطنيها بعد فك الارتباط وقيام السلطة، وهنا لا أحسب أن فلسطينيين كثرا، ينوون كسر هذه المعادلة أو الخروج، وإن كان من بينهم من يجنح لذلك (وهم أقلية) فإنما يفعلونه تحت ضغوط احتياجات الحياة اليومية وضروراتها الضاغطة، وليس من ضمن تفكير "مؤامراتي” من أي نوع.
خامساً- إن التصدي لما هو ظاهر وخبيء من مشاريع ومؤامرات، تملي على الدولة والمجتمع في الأردن، وبالذات مؤسسات صنع القرار السياسي التاريخي والاستراتيجي، التفكير بـ”الخطة ب” التي يجب الذهاب إليها من دون إبطاء، بعد فشل "الخطة أ” والمتمثلة في الخيار التفاوضي والرهان على "أوهام السلام والحلول” مع دولة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، وأرى أنه يتعين علينا في الأردن، مواكبة الجدل الفلسطيني المحتدم حول استراتيجية المرحلة المقبلة، مرحلة ما بعد سقوط خيار المفاوضات الذي يدخل عقده الثالث من دون جدوى أو نتيجة، وأن ندفع باتجاه استراتيجية مشتركة جديدة، تقوم على تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية وإطلاق المقاومة الشعبية والبناء على نتائج ومعطيات "ربيع العرب”....إن التصدي لهذه المشاريع، لا يكون بإطالة أمد "خيار المفاوضات” ومده بنسغ الحياة التي يحتاجها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ...وإن لم ننجح في اعتماد استراتيجية بديلة لإسقاط مؤامرة "التوطين” فإننا بلا ريب، سنكون قد مهدنا الطريق لتوطين "المؤامرة” بصرف النظر عن شكلها ومسمياتها.
ثمة العديد مما يمكن أن يقال في هذا الصدد، وفي ظني أنه بالإجمال، يمكن أن يشكل قاسماً مشتركاً أعظماً بين مختلف المكونات والمشارب والمنابت الأردنية، شريطة الترفع عن "الحسابات الصغيرة” من جهوية وفئوية وحزبية، وأن نتجه صوب بناء أجندة وطنية موحدة، بعزم وثبات وطول نفس، فلا يعيدنا تصريح هنا أو مقالة هناك، إلى أسلوب "الفزعة”، التي سرعان ما تنتشر أصداؤها في الآفاق، وبذات السرعة التي تعود فيها للانطفاء، عندما نعود لمباشرة يومياتنا وحساباتنا المعتادة، فهل نجرؤ على سبر هذه الأغوار، هل نجرؤ على مجازفة "التفكير بعيد المدى” بعيداً عن "اسلوب المياومة” في ممارسة العمل السياسي”، هل نجرؤ على القراءة من "خارج الكتب المقررة سلفاً”؟
المصدر: جريدة الدستور