ما الذي تبقّى للوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان؟
بقلم: ماجد كيالي
مقايضة السلاح بالحقوق المدنية للاجئين وسيلة من شأنها تأجيج عدم الثقة بين الفلسطينيين ومختلف الأطياف اللبنانية، لاسيما في ظروف لبنان المعقدة. بعد أن انتهى زمن المقاومة المسلحة لم يعد أي مبرّر لوجود السلاح الفلسطيني في لبنان.
ما هي وظيفة السلاح الفلسطيني في لبنان حقاً؟ وما هي الرسائل التي يبعثها؟ ثم ما الذي بقي له ليعمله في هذا البلد بعد كل ما مرّ في «النهر» عند اللبنانيين وعند الفلسطينيين وفي عموم المنطقة؟
في زمن مضى وانقضى تمّت تغطية الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان بمقاومة إسرائيل، ثم أضيف إليها وظيفة أخرى تمثّلت بحماية مخيّمات الفلسطينيين في هذا البلد، أي أن وجود السلاح بات يبرّر ذاته بذاته؛ وهو ما حصل، وياللمفارقة، مؤخّرا بشأن تبرير سلاح حزب الله في لبنان، بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي (2000).
ثمة سبب ثالث برز في السنوات الماضية وبعد طول سبات. فبعد أن سكتت معظم الكيانات السياسية الفلسطينية، في مرحلة صعودها، عن واقع التمييز في القوانين اللبنانية إزاء اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم كبشر في لبنان، والتي لم يعرف عنها أية حساسية إزاء هذه الحقوق، إذا ببعض هذه الكيانات يطرح مقايضة الحقوق المدنية (الاقتصادية والاجتماعية) لهؤلاء في لبنان بالسلاح الفلسطيني.
وبغضّ النظر عن رأينا في مآلات المقاومة المسلحة، وحدود دورها في الظروف الراهنة، فإن هذه التبريرات لم يعد لها أي أساس في الواقع. فالمقاومة الفلسطينية المسلّحة، وحتى المدنيّة، من جنوبي لبنان باتت متعذّرة وممنوعة، ليس من قبل الدولة اللبنانية فقط، وإنما بسبب ممانعة حزب الله لأي نشاط مسلّح أو غير مسلح ضد إسرائيل من الجنوب من خارج نطاق سيطرته، سواء كان هذا النشاط فلسطينيا أم لبنانيا.
وإذا تجاوزنا الإرادات اللبنانية في هذا الشأن فإن الكيانات السياسية الفلسطينية الفاعلة تخلّت من الناحية العملية عن المقاومة المسلّحة، وحتى أنه بات ثمة تقارب بين الفصيلين الرئيسيين المهيمنين (أي «فتح» و«حماس») بشأن تبني المقاومة الشعبية ضدّ إسرائيل. وهكذا لم يعد ثمة مقاومة مسلحة، لا من الضفة ولا من غزة، وهاهي «حماس» ذاتها تثبّت التهدئة في الكيان الذي تسيطر عليه في قطاع غزة.
وبالنسبة للتبرير المتعلّق بحماية مخيمات اللاجئين فقد ثبت فشله، بل وثبت أن هذا السلاح هو الذي أسهم في تدمير عديد من المخيمات، وفي التضييق على حياة الفلسطينيين فيها، منذ خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان (صيف العام 1982).
فبعد هذا الخروج تعرّضت مخيمات اللاجئين في لبنان إلى نوع من حروب واعتداءات مدمّرة. ففي أواسط الثمانينيات قامت حركة أمل بمحاصرة مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا بحجة نزع سلاح الفلسطينيين، ما نتج عن ذلك تدمير مساحات كبيرة من هذا المخيمات، وخلق مآسي جديدة للفلسطينيين، وتشديد التضييق عليهم فيما بعد. وقبل أعوام قليلة شهد مخيم نهر البارد، في شمال لبنان، حربا شنّها الجيش اللبناني ضد ما أطلق عليه اسم تنظيم «فتح الإسلام»، الأمر الذي نتج عنه تدمير المخيم، وتشريد معظم سكانه، الذين مازالوا حتى الآن ينتظرون العودة إلى ما تبقى من خرائبه.
وبين هذا وذاك وبسبب السلاح الفلسطيني فقد شهدت المخيمات العديد من الاشتباكات المسلحة بين مختلف الجماعات الفلسطينية والتي نتج عنها قتلى وجرحى ودمار وزيادة في معاناة اللاجئين؛ هذا فضلاً عن تحوّل مخيم عين الحلوة في صيدا، مثلاً، إلى نوع من بؤرة لعديد من الجماعات الإسلامية المسلحة، أو الخارجة عن القانون، والتي تستخدم أحياناً في توظيفات سياسية معينة.
أما في ما يخصّ مقايضة السلاح بالحقوق المدنية للاجئين فهذه الوسيلة بالذات من شأنها تأجيج عدم الثقة بين الفلسطينيين ومختلف الأطياف اللبنانية، لاسيما في ظروف لبنان المعقدة، علماً أن لاشيء يبرّر استمرار التمييز ضدهم منذ ستة عقود، بخاصّة إنهم يدخلون في إطار العملية الاقتصادية للبنان، ويعتبرون وجودهم فيه مجرّد وجود مؤقت.
هكذا لم يعد، في حقيقة الأمر، وبعد أن انتهى زمن المقاومة المسلحة، أي مبرّر لوجود السلاح الفلسطيني في لبنان، وإذا كانت السلطة الفلسطينية، حيث «فتح» في الضفة و«حماس» في غزة، تحتكر السلاح وتفرض سيطرتها في إقليمها، فالأحرى التوافق على ذات الأمر في لبنان بين الفلسطينيين، وأيضاً مع السلطة اللبنانية.
مع ذلك ثمة «وراء الأكمة ما وراءها (كما يقولون)، ففي الواقع ثمة تبريرات مضمرة وراء كل هذا الحرص على استمرار وجود السلاح الفلسطيني في لبنان، عند عديد من الأطراف، فلسطينيين ولبنانيين وإقليميين. فعند بعض القوى الفلسطينية فإن ورقة السلاح في لبنان تخدم في تعزيز وضعهم المتآكل في الساحة الفلسطينية، كما أن هذه الورقة تعزز من وضعهم في إطار التوظيفات السياسية الإقليمية. أما عند بعض اللبنانيين فإن ذلك يمكن أن يغطي أو يستخدم في تعقيد ملف انتشار السلاح في لبنان، للتملّص منه، إزاء المطالبات المتزايدة ببسط سلطة الدولة والجيش على مختلف الأراضي اللبنانية، ونزع السلاح من مختلف الأفرقاء لبنانيين وغير لبنانيين.
ثمة أطراف إقليمية معنيّة هي أيضاً باستمرار الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، لاسيما أن المكونات الفلسطينية المعنية في هذا الأمر على صلة وثيقة بهذه الأطراف وتعمل في إطار وظيفي في خدمة سياساتها في لبنان وفلسطين وعموم المنطقة.
في هذا الإطار فإن قيام القيادة الفلسطينية (وضمنها قيادة «فتح»)، باتخاذ عديد من الإجراءات لتنظيم الوحدات العسكرية التابعة لها، في إطار هيكلية قوات الأمن الوطني؛ وهي القوات الرسمية العاملة في نطاق السلطة الفلسطينية، هي خطوة في الاتجاه الصحيح. ومعلوم أن هذه القيادة لطالما عبرت عن التزامها بسيادة لبنان على كل أراضيه، وعن استعدادها غير المحدود للتعاون مع الدولة اللبنانية لحلّ مسألة الوجود المسلح (أقلّه الذي يدخل في نطاق سيطرتها). ويمكن القول بأن السير في هذا الوضع إلى نهايته من شأنه أن يضع حداً لفوضى السلاح والجماعات المسلحة، وإيجاد حالة رسمية تحت طائلة القانون، الأمر الذي يسهّل على الدولة اللبنانية، وعلى اللاجئين في المخيمات، الذين طالما عانوا وعاشوا في قلق جراء المنازعات بين الأطراف الفلسطينية المسلحة.
هكذا ينبغي التشجيع على هذه الخطوة وحثّ تدعيمها بخطوات أخرى تتعلق بتنظيم مختلف جوانب العمل الفلسطيني في لبنان، السياسي والتنظيمي والإعلامي والخدمي.
لذا وبدلاً من السلاح يمكن للقيادة الفلسطينية أن تقدم لهؤلاء اللاجئين، الذين دفعوا ثمنا باهظاً في مرحلة صعود المقاومة المسلحة، مزيداً من الدعم على صعيد العمل والتعليم والخدمات، ولاسيما على صعيد منحهم الجنسيّة (بالتوافق مع الدولة اللبنانية وربما مع جامعة الدول العربية). فهذه الجنسية هي حقّ طبيعي لهم، فضلاً عن إنها يمكن أن تسهّل حياتهم، وأن تهدئ من مخاوف بعض اللبنانيين وتضع حداً لفزاعة «التوطين».
المصدر: ميدل ايست أونلاين