ما النكبة؟
بقلم: نصري حجاج
سبقتني النكبة إلى الحياة
بثلاث سنوات، فقد ولدتُ بعدها في خيمة، وعشت معها، وكم يحزنني أن النكبة، على الرغم
من شيخوختها، ستعيش بعدي طويلاً، ففي كل يوم، وفي كل عام، تجدد النكبة حيويتها وتمسكها
بالحياة، وأرى كم نساهم جميعاً في مسيرتها وصيرورتها النشطة. ما أن تعلمت الحروف الأولى
في مخيم عين الحلوة، المكان الذي ارتبط، وغيره من المخيمات، بالنكبة، وجوداً قائماً
وشاهداً فاضحاً، مثل ضوء يعمي الأبصار، حتى صارت النكبة مفردة لا تفارق لغتي وبنياني
الروحي، فأنا ابن النكبة التي ولدت قبل ولادتي، أو على الأصح، أنا حفيد النكبة الذي
سيلد أحفاداً جدداً، سيلدون أحفاداً آخرين، إلى أن تتسع ذريتها، لتؤسس لمجتمع منتشر
في الآفاق، ليس على حدود مكانها الأصل، بل سيكون في كل مكان تشتت فيه الأحفاد وأحفادهم،
فتصير النكبة مثل جدة ولاّدة، يستطيع غرباء كثيرون في العالم أن يرجعوا نسبهم إليها.
ولكن، ابنة من هذه النكبة؟
هل هي ابنة عجزنا وقصورنا، أم هي ابنة تخلفنا واستبداد حكامنا، أم هي ابنة ما يحلو
لنا أن نكرره يومياً عن المؤامرة علينا وعلى بلادنا العظيمة البائسة؟ هل النكبة كل
هذا، أم أنها أيضاً ابنة الهولوكوست المدمر الذي محق ملايين البشر، وأراد ضميره المقيح
أن يشفي جرحه النازف بإيجاد حل لخطيئته التاريخية بحق اليهود، والحل النهائي لوجودهم
في الغرب بالقتل، فلم يجد لهم حلاً غير إبادتنا، نحن الفلسطينيين، وتشريد كينونتنا
برمتها؟ النكبة صارت مفردتنا وهويتنا، كما كان الهولوكوست مفردة اليهود وهويتهم.
النكبة ابنة الهولوكوست،
والهولوكوست هو أب النكبة العلني. وإذا كان الفلسطينيون بمعظمهم يعترفون بالهولوكوست
مأساة منتصف القرن العشرين التي عاشها اليهود وملايين البشر، كالغجر والشيوعيين والمثليين
وغيرهم، فكيف لنا أن نعمل لكي نشطب المفردتين من قواميس اللغة المتداولة بين مواطني
القرن الحالي، ونصنع للإنسانية لغتها الجديدة؟
دعتني، في عام 2003، دار
نشر بولندية، يديرها أصدقاء بولنديون، إلى وارسو، لأقدم محاضرة حول اللاجئين الفلسطينيين
في لبنان، في جامعة وارسو، بمناسبة إطلاق الترجمة البولندية لكتاب المفكر الفلسطيني،
إدوارد سعيد، "ما بعد السماء الأخيرة". وقد طلبت من أصدقائي ترتيب زيارة
لي إلى معسكر أوشفيتز الشهير بالمحرقة النازية ضد اليهود وغيرهم من الإثنيات وأصحاب
الفكر المناهض للنازية في أثناء الحرب العالمية الثانية. هناك، التقيت بولنديين من
مجلس بلدية المنطقة الذين دهشوا من زيارة فلسطيني مناهض لإسرائيل إلى المعسكر، فطرحت
عليهم فكرةً وجدوها صاعقة لمخيلتهم وأفكارهم المسبقة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فكرتي تتلخص بالعمل على إقامة مشروع تآخ أو توأمة ما بين أوشفيتز ومخيم شاتيلا. وقلت
لهم إن مأساة اليهود في أوشفيتز مأساة الإنسانية جميعها، فهل يمكن الاعتراف بمأساة
الفلسطينيين مأساة على أيدي الإسرائيليين مأساة إنسانية على العالم كله أن يسعى الى
إيجاد حل لها؟
وجدت حماسة شديدة للفكرة،
وأذكر أنني تحدثت مع أصدقاء فلسطينيين وعرب من المثقفين حول فكرتي، ووجدت دعماً واضحاً،
حتى أن أحدهم اقترح دعوة شخصيات ثقافية عالمية، مثل ماركيز وتشومسكي وساراماغو وإدوارد
سعيد وغيرهم، لحضور حدث التوقيع على تلك الاتفاقية. وكتبت فكرتي بالتفصيل للمسؤولين
الفلسطينيين في رام الله، وكان الرد وجلاً متردداً عاجزاً عن استيعاب ترددات الفكرة
التي اعتبرهما أحدهم ترددات زلزالٍ، قد يهيج إسرائيل وحلفاءها ضد السلطة ومنظمة التحرير
والفلسطينيين الذين سيتهمون بسرقة ماء الحياة الذي تعيش منه إسرائيل والصهيونية.
ونحن نعيش النكبة في عمرها
السابع والستين، لا نزال نواجه فتوة وشباب الهولوكوست الذي لا يشيخ، لأن نكبتنا تتجدد،
ونحن نهدهدها، بكل ما أوتينا من ضبابية الرؤية، وغرقنا في تكلس الفكر والسياسة والفساد
والعجز، وانتظار النصر من عند الله.
المصدر: العربي الجديد