القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

ما فعله خيار أوسلو بالفلسطينيين

ما فعله اتفاق اوسلو بالفلسطينيين؟!

بقلم: ماجد كيالي

عندما وقّعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو (1993)، مع إسرائيل، والذي نجم عنه إقامة كيان السلطة (1994) في مجرّد 43% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، نشأ نقد سياسي كبير وعميق لهذا الاتفاق، لكن هذه القيادة كعادتها لم تول، في حينه، أي اهتمام لهذا النقد، والأنكى أنها واصلت تمسّكها بهذا الخيار، رغم انقلاب إسرائيل عليه، ورغم تحوله إلى أحبولة تهدف إلى خنق الفلسطينيين ووأد طموحاتهم وتبديد إنجازاتهم الوطنية.

الآن، وبعد ما يقارب العقدين من عمر هذا الاتفاق، وبعد كل هذه التجربة، بات يمكن تعداد الآثار الخطيرة لهذا الاتفاق، على قضية فلسطين وشعب فلسطين وحركته الوطنية، والتي يمكن حصرها في الجوانب الأساسية الآتية:

أولاً، الهجرة اليهودية: في العقدين الماضيين هاجر إلى إسرائيل حوالي مليون يهودي، أغلبيتهم من دول الاتحاد السوفياتي السابق، أي بمعدل قدره 80 ألفا في العام الواحد. طبعاً، هذا لا يعني أنه من دون اتفاق التسوية ما كان سيحصل ذلك، بقدر ما يعني بأن واقع الاحتلال المريح، الناجم عن توقف المقاومة وقيام السلطة، شجّع على جلب مزيد من اليهود إلى إسرائيل، التي باتت بالنسبة لهم بمثابة دولة مغرية من كل النواحي.

ثانياً، الاستيطان: ازدادت، خلال العقدين الماضيين، مساحة المستوطنات في الضفة، كما تزايدت أعدادها وأعمال البناء فيها، وبات ثمة شيء جديد اسمه النقاط الاستيطانية، والمستوطنات العشوائية. وبحسب الإحصائيات فثمة 440 موقعا استيطانيا، منها 144 مستوطنة، و96 بؤرة داخل حدود المستوطنات، و109 بؤر خارج حدود المستوطنات، و43 موقعا مصنفاً على أنه مواقع أخرى و48 قاعدة عسكرية.

وهذا كله أدى كما هو معروف إلى تقطيع التواصل بين المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، كما أدى إلى اقتطاع المزيد من أراضي الضفة الغربية. وفي حين تقدّر ﻤﺴﺎﺤﺔ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻘﺎﻡﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺴﺘﻭﻁﻨﺎﺕ بنحو 1.6%, فإن ﺍﻟﻤﺠﺎل ﺍﻟﺤﻴﻭي لها، مع الطرق المؤدية إليها والأراضي التابعة لها، يبلغ ﻤﺎ ﻨﺴﺒﺘﻪ ﻤﻥ 58-45% ﻤﻥ ﻤﺴﺎﺤﺔ ﺍﻟﻀﻔﺔ؛ أغلبها في منطقة القدس الكبرى.

ثالثاً، المستوطنون: تضاعفت أعداد المستوطنين في العقدين الماضيين، فبينما كان عددهم (1993) في الضفة ومنطقة القدس حوالي ربع مليون بات عددهم اليوم يقدر بنحو 500ـ600 ألف مستوطن يهودي، نصفهم في منطقة القدس الشرقية والمستوطنات في منطقة القدس الكبرى.

ويشكل هذا الوضع خطرا كبيرا على القدس التي بات عدد الفلسطينيين فيها في القدس الشرقية لا يزيد كثيرا عن عدد اليهود، في حين أن نسبتهم بالقياس لليهود في القدس الكبرى تشكل الثلث فقط. وفي الواقع فإن هذا يؤكد أن إسرائيل، التي أجّلت موضوع الاستيطان إلى مفاوضات الحل النهائي، وهو ما قبلت به القيادة الفلسطينية، إنما أرادت من وراء ذلك تغيير الواقع على الأرض في الضفة الغربية لفرض إملاءاتها على الفلسطينيين في عملية التسوية. وأنه لمما يثير الاستغراب حقيقة توهّم البعض بإمكان انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية التي تعتبر بالنسبة لليهود بمثابة "أرض الميعاد"، والتي تعتبر بالنسبة للحركة الصهيونية المبرّر لقيام إسرائيل.

رابعاً، الجدار الفاصل: كما هو معلوم فإن إسرائيل تذرّعت بالاعتبارات الأمنية لبناء جدار فاصل، هو بمثابة جدار فصل عنصري، في الضفة الغربية، جعل من المدن والمناطق الفلسطينية مجرد كانتونات معزولة عن بعضها، ويصعّب التواصل فيما بينها بالنسبة إلى الفلسطينيين.

وفضلاً عن كل ذلك فإن هذا الجدار ﻴﻠﺘﻬﻡ ﻤﺴﺎﺤﺎﺕ ﻭﺍﺴﻌﺔ ﻤﻥ ﺍﻷﺭﺍﻀﻲ ﺍﻟﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻴﺔ في الضفة، ويدخل معظم الكتل الاستيطانية وحوالي 80.2% ﻤﻥ ﺇﺠﻤﺎﻟﻲ ﻋﺩﺩﺍﻟﻤﺴﺘﻭﻁﻨﻴﻥ في ﺍﻟﻀﻔﺔ ﻭﺍﻟﻘﺩﺱ، إلى داخله. فوق ذلك فإن هذا الجدار يحدد من طرف واحد المناطق التي تتوخى إسرائيل ضمها إليها في التسوية النهائية، التي تريد أن تفرضها على الفلسطينيين في نطاق تبادلي.

والجدير ذكره أن ترسيم هذا الجدار لم يأخذ باعتباره فقط مواقع المستوطنات، إذ لحظ أيضا ضم خزانات ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ الجوفية الأساسية في ﺍﻟﻀﻔﺔ إلى داخله، لاستعمالات إسرائيل، التي تقوم بدورها بتحديد مقاديره بالنسبة إلى الفلسطينيين.

خامساً، المجتمع الإسرائيلي: من الملاحظ أن إسرائيل استطاعت عبر الجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، والحدّ من عمل العمال الفلسطينيين فيها، تخفيف الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بحيث بات المجتمع الإسرائيلي لا يحسّ بوطأة الاحتلال، ولا يشعر بأية تبعات سياسية وأخلاقية وأمنية للوجود الاحتلالي الإسرائيلي الذي يعاني منه الفلسطينيون.

وعلى الناحية الأخرى فإن الفلسطينيين في ظل هذا الوضع، لاسيما مع توقّف المقاومة المسلحة من الضفة الغربية ومن قطاع غزة، باتوا غير قادرين أو غير مؤثرين على التفاعلات السياسية الجارية في إسرائيل، بالقياس لتأثيرهم، مثلا، إبان الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)، وهذا ما تعنيه إسرائيل بمصطلح الاحتلال المريح. والظاهر أن إسرائيل وصلت حقا إلى هكذا وضع، مؤخرا، في الضفة الغربية، بعد إنهائها ظاهرة المقاومة المسلحة (2000ـ2005)، وبعد انسحابها الأحادي من قطاع غزة وفرضها الحصار المشدد عليها.

سادساً، الحركة الوطنية الفلسطينية: مع قيام السلطة تخلت الحركة الوطنية الفلسطينية عن طابعها كحركة تحرر وطني، وتحولت إلى نوع من سلطة تتعايش مع الاحتلال، مع كل ما يترتب على ذلك من علاقات ثنائية تتمثل بالتنسيق الأمني والاعتمادية الاقتصادية والتبعية الإدارية والقانونية.

وهذا يفيد بأن هذه الحركة فقدت أهليتها النضالية وصدقيتها الوطنية، ما أثر عليها، بدليل ترهّل بناها، وشيوع الفساد السياسي والمسلكي داخلها، لاسيما مع وجود طبقة سياسية سائدة فيها، باتت تعتمد في وجودها وامتيازاتها ومكانتها على استمرار واقع السلطة، بغض النظر عن الأثمان السياسية والأمنية الباهظة الناجمة عن كل ذلك. وبديهي فإنه في ظروف السلطة بات المنضوون في إطار الكيانات السياسية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل) يعطون الأولوية لتدبّر أحوالهم الخاصة، وتعزيز مكانتهم الشخصية، بدلا من الاهتمام بتطوير الحالة الفلسطينية (المفاهيم والبني والعلاقات) وبدلا من الاهتمام ببحث أو بمراجعة الخيارات الوطنية، في مواجهة الاحتلال، وبدلا من نقد حال الترهل والتبلد في الجسم الفلسطيني.

سابعا: الانقسام الفلسطيني: ومن آثار التحول من حركة تحرر إلى سلطة تحت الاحتلال، نشوب حال من الخلاف والتنابذ والاقتتال والانقسام بين أهم حركتين وطنيتين للشعب الفلسطيني. وقد تبيّن عبر التجربة بأن هذين الفصيلين اشتغلا بالتصارع فيما بينهما على السلطة والمكانة بدلا من التصارع مع الاحتلال، وقد نجم عن ذلك انقسام النظام السياسي الفلسطيني، وفصل الضفة عن غزة، كما نجم عن ذلك زيادة الفجوة بين الشعب وفصائله الوطنية، التي باتت تضع مصالحها الفصائلية على رأس الأولويات بدلا من مصالح القضية والشعب، بدليل ترسّخ واقع الانقسام طوال السنوات الخمس الماضية (2007ـ2012).

ثامناً، منظمة التحرير: لقد نجم عن قيام كيان السلطة نشوء واقع من تهميش وتغييب كيان منظمة التحرير بمعناها ومبناها، والتي كانت في مكانة الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم. المشكلة أن كيانية السلطة لم تستطع أن تملأ الفراغ الذي كانت تحتله كيانية منظمة التحرير، لاسيما أن مسؤوليتها التمثيلية ظلّت محصورة في فلسطينيي الضفة والقطاع، وبخاصة أن السلطة نفسها باتت تحوم من حولها شبهات سياسية، وأنها لم تثبت ذاتها، وأنها وصلت إلى طريق مسدود. وبالنتيجة فقد نجم عن كل ذلك أن القيادة الفلسطينية ضيّعت المنظمة ولكنها في المقابل لم تربح السلطة.

تاسعاً، اللاجئون: شكّل انتقال مركز ثقل العمل الوطني الفلسطيني إلى الداخل نقلة ضرورية ومهمة وتاريخية، لكن مشكلة هذا الانتقال أنه جاء بثمن سياسي باهظ، وخطير، تمثل بإخراج ملايين اللاجئين من المعادلات السياسية وموازين القوى الفلسطينية، كما تمثل بتراجع دور هذه الكتلة الكبيرة في العملية الوطنية. الأنكى من كل ذلك أن هذا الوضع تم في مناخ تهميش منظمة التحرير، التي كانت تشكل الكيان السياسي المعنوي والرمزي للاجئين في الخارج، وفي ظل مناخات توحي بوضع هدف الدولة المستقلة في الضفة والقطاع على رأس الأجندة السياسية على حساب اللاجئين وحقّهم المتمثل بالعودة.

ومعلوم أن ظروف المفاوضات وموازين القوى لا تسمح بطرح هدفي الدولة والعودة، في وقت واحد، وأن مداولات المفاوضات، ولو غير الرسمية، أوحت بإمكان وضع حق العودة للاجئين في موضع المساومة في المفاوضة مع إسرائيل. ومن جهة أخرى فإن الأوضاع والتطورات في بلدان اللجوء أكدت للاجئين بأن التركيز على السلطة من قبل القيادات الفلسطينية جاء على حساب الاهتمام بأوضاعهم ومشكلاتهم الحياتية، في الأردن والعراق ولبنان وسوريا.

عاشراً، التسوية: أدى قيام السلطة في الضفة والقطاع، وهي سلطة مقيدة، وتخضع لسيادة الاحتلال، إلى التشويش على معنى قضية فلسطين أمام الرأي العام العالمي، إذ بدا وكأن قضية الفلسطينيين إنما هي مجرد صراع على الحدود، وأنها بمثابة صراع بين طرفين متكافئين وبين حقين متساويين.

هذا يفسّر تركيز العالم على القضايا الحدودية وعلى المكانة القانونية للدولة الفلسطينية المفترضة، في حين أن قضية الفلسطينيين، باعتبارها قضية تحرر وطني، وضمنها قضية اللاجئين، لم يعد لها صدى عالمي، أي أن خيار أوسلو نقل الصراع مع إسرائيل من ملف 1948 إلى ملف 1967 وفقط، وهذا هو مفهوم إسرائيل لفكرة "دولتين لشعبين"، بما في ذلك سعيها الدؤوب لفرض الاعتراف بها كدولة يهودية حصراً.

حادي عشر، إشكالية الهوية: نشأ عن قيام السلطة، والتركيز على خيار الدولة في الضفة والقطاع، وتهميش منظمة التحرير، غياب الإجماعات الوطنية بين صفوف الفلسطينيين، فليس ثمة مشروع سياسي جامع، وليس ثمة كيانية سياسية جامعة.

وما يفاقم من ذلك واقع تمزّق البنية المجتمعية للفلسطينيين، وغياب الإقليم الموحد لهم، وتوزعهم على بلدان وسلطات متعددة ومختلفة. ويخشى أن هذا الوضع، في حال تكرسه، قد يفتح على خلق تشقّقات في الهوية الوطنية للفلسطينيين، ربما تنعكس على شكل تباين في أهدافهم وأولوياتهم وتطلعاتهم، الأمر الذي يفترض الانتباه إليه جيداً.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن الفلسطينيين معنيون بمراجعة خيار أوسلو وخيار السلطة، بعد هذه التجربة المريرة والخطيرة، التي يبلغ عمرها عقدين من الزمن. هذا يتطلب قوة إرادة، ونوعا من التصميم على مراجعة التجربة السابقة مراجعة نقدية ومسؤولة وحاسمة، بغرض استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، وإعادة بنائها على أسس نضالية ووطنية ومؤسسية وتمثيلية وعبر الانتخابات.

وفي ذلك فمن البديهي أنه لا يمكن استنهاض الحالة الوطنية الفلسطينية وتعزيز الهوية الجمعية الفلسطينية من دون صوغ مشروع وطني فلسطيني ملهم، يعيد الاعتبار للتطابق بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين وحركته الوطنية، فهذا ما يكفل لشعب فلسطين وحدته، ووحدة هويته، وشعوره بالمستقبل المشترك. فما يشكّل حقاً المشروع النقيض لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية /اليهودية هو نشوء مشروع فلسطيني يتأسس على قيم الحرية والعدالة والكرامة والمساواة والديمقراطية.

* كاتب وباحث فلسطيني يقيم في دمشق.