نداء عودة
لم يغلق مخاض اللجوء الفلسطيني في لبنان
فصول أزماته منذ 74 عاماً على النكبة، ولعلّ الأعوام الأربعة الأخيرة التي دقّت فيها
طبول "صفقة القرن" والمتماهين مع إملاءاتها، فرضت على الفلسطينيين في كلّ
مكان حصاراً أقلّ ما يمكن وصفه بمخاض مصير، أكثر من كونه عسيراً، أضافت أزمة النظام
اللبناني بما نضح عنها من انهيار سياسي واقتصادي بثقلها على واقع هذا اللجوء، وأمام
ضبابيّة مستقبل لبنان الدولة، يتساوى اللبنانيون والفلسطينيون في مراكب الهجرة الجماعية،
مع ما تشكّله هذه الهجرة اليوم من تغيير ديمغرافي يفرغ المجتمع اللبناني من أركانه
المُواطنة والمقيمة، تنسحب هذه المرحلة بقسوتها على اللاجئين الفلسطينيين الذين تمسّكوا
بحقوقهم التاريخية وعلى رأسها حقّ العودة، على التماس نفسه، الذي عانوا فيه حرماناً
تاريخيّاً من حقوقهم المدنية والأساسيّة في هذا البلد.
عن الفلسطيني بِوَصفه "أجنبياً"
ينظر لبنان من خلال تناقضاته، أو توافقاته
السياسية في آنٍ معاً، إلى اللجوء كـ"خطر وجودي"، ورغم تغنّيه بميزته في
تنوّعه وفسيفسائه، فهو يتجاهل أنّ هذه الفسيفساء طالعة من الأقليّات اللاجئة إليه منذ
تأسيسه والتي وُصفت بـ"حجر الزاوية" في تكوينه، وطوال عقود استمرّ فيها اللجوء
( السوري أخيراً)، لم يسنّ لبنان أية تشريعات تُعطي وضعاً قانونياً للجوء، أو على الأقلّ لم يتعامل مع ما هو قائم
من قوانين، ولم يوقّع على المواثيق الدولية ذات الصلة، ورغم أن البرلمان اللبناني أقرّ
نهاية العام 2012 الخطة الوطنية لحقوق الإنسان والتي تٌلزمه باحترام الحقوق الأساسية
لكافة المقيمين على أراضيه، إلا أنّ اللاجئ الفلسطيني بقي في نظر السلطة أجنبيّاً،
وغريباً مستبعداً عن العمل وأيّ من حرياته في التنقل والتعبير والرأي، لكن سرعان ما
يعود الفلسطيني في حسابات السلطة لاجئاً حين تقتضي الحاجة الإقليمية والدولية لذلك.
هنا أبسط الأمثلة في تعديل قانون العمل
اللبناني والذي جرى تحت ضغط قوى حيّة وأحزاب لبنانية في أغسطس/آب 2010، لم يرشح سوى
عن إجراءات "تخفيفية" في الآلية نفسها، حيث ظلّ اللاجئ الفلسطيني من العمال
الأجانب لكنه اعتبر من الفئات الخاصّة، أي أنه أعفي من الرسوم واستثني من مبدأ المعاملة
بالمثل لكونه لا دولة له، ما يعني استمرار تحجيم حقوقه كمقيم أصيل وإخضاعه لإجراءات
إدارية تتعلّق بوزير العمل لا بقوانين دولة، وحتى اليوم لم تصدر المراسيم التطبيقية
المتعلّقة بتعويض نهاية الخدمة، ما يعني استمرار تعرّض اللاجئ الفلسطيني لاستغلال أرباب
العمل. وبقي محظوراً عليه مزاولة عشرات المهن ومنها المهن الحرّة كالطبّ والهندسة والمحاماة،
وظلّ ممنوعاً من امتلاك شقة سكنية. ولم يكن مستهجناً بعد تسعة أعوام من هذا "تعديل"
أن تعود الآلية الإدارية وتخضع اللاجئ لقرار تعسّفي من وزير العمل كميل أبو سليمان
صيف 2019 الذي منع الفلسطينيين من العمل ضمن "مكافحة العمالة الأجنبية"،
جاء هذا القرار في إطار مزايدة سياسية على خصوم آخرين أرادوا تحميل اللاجئين السوريين
مسؤولية الانهيار الاقتصادي في البلاد عشية ثورة 17 تشرين، تمّ إغلاق مصالح ومؤسسات
يمتلكها فلسطينيون، وأدّى ذلك لاشتعال انتفاضة المخيمات التي قامت على حراكات شعبية
وشبابية غير فصائلية، ساند الشارع اللبناني في كثير من المدن والمناطق اللاجئين الفلسطينيين
وكتل نيابية لإسقاط هذا القرار، ومن المعروف أن الفلسطينيين يعملون على تجارات حرّة
ومشاريع خاصّة إضافة للعمل ضمن الجمعيات والروابط الأهلية والمنظمات غير الحكومية ووظائف
منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف) وأونروا، وكذلك كعمال في ورش البناء، وتعتمد المخيمات
على دعم كفاءات شبابها من المغتربين.
مرور تاريخي
لم يكن حال اللاجئين اليوم يشبه بادئ الأمر،
حيث قوبل اللاجئون إثر النكبة بترحاب رسمي وشعبي إثر حرب فلسطين، تعمّدت الحكومة اللبنانية
إيواء اللاجئين على مداخل المدن الأساسية بقصد تحريك الدورة الاقتصادية فيها، ومازالت
في الذهن تصريحات وزير الخارجية اللبناني حميد فرنجية ومنها "سنقتسم في ما بيننا
وبينهم آخر لقمة من الخبز"، هذا الانخراط الفلسطيني في الحياة اللبنانية أسهم
بنهضة عمرانيّة واقتصادية وثقافية، بعد أحداث 1958 شهد عهد الرئيس فؤاد شهاب قمعاً
عسكرياً واعتقالات، ورغم أن اتفاق القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية
عام 1969 كان اتفاقاً أمنياً، إلا أنّ (م ت ف) لم تستفد من مادّته الأولى التي نصّت
على منح الفلسطينيين حقوقاً أساسية بالعمل وحرية الحركة والتعبير السياسي والتنظيمي،
وأقلّه، لم تعمل على إبرام اتفاق رسمي مع الدولة بشأن اللاجئين، وإنما تعاملت بحكم
أمر واقع نفوذها، ولا يختلف اثنان على الأثمان التي دفعها اللاجئون بفعل إقحامهم في
أتون الحرب الأهلية، ما رتّب أثماناً من الدماء والمأساة والهجرات الداخليّة منذ
1975 وصولاً إلى تلّ الزعتر ثمّ حرب طرابلس فحرب المخيمات 1987 .
ولم تكن المخيمات في زمن "السّلم الأهلي"
بمنأى عن الصراع اللبناني-اللبناني فقد انسحب على مخيمات "نهر البارد" شمال
لبنان عام 2007 و عاصمة الشتات "عين الحلوة" جنوب لبنان صيف 2017 ودفع المدنيون
مجدّداّ ثمناً باهظاً في ما سمي الحرب على الإرهاب، تمّ تسوير "عين الحلوة"
بحواجز أمنية وجدران إسمنتية وازداد التعامل مع المخيمات كغيتوهات أمنية معزولة عن
محيطها اللبناني، ولا شكّ أنّ الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني كان ومازال خير مُستدرج
لـ"لَبننة" المخيمات، كما أنّ غياب المرجعية الواحدة للاجئين ترك مصيرهم
للريح.
ولم يأتِ هذا التعاطي مع اللجوء كملفّ أمني
سوى امتداد مضاف لما أفرزه زمن الوصاية السورية على لبنان، بحيث يكون "التوطين"
خطراً وجوديّاً على لبنان بوصفه إخلالاً بالديموغرافيا. وفيما طوت الأطراف المتحاربة
صفحة الحرب بينها وتقاسمت غنائم السلطة، لم تكلّف نفسها قراءة أسباب هذه الحرب ومطالعة
اللبنانيين على خلفياتها، بدا الـ"توطين" الوارد في مقدمة الدستور اللبناني
هو الابتكار السياسي للرّهاب ضدّ الفلسطيني كونه مسؤولاً وحيداً عن الحرب الأهلية،
وفي ذلك تعمية واضحة عن مَرضيّة النظام الطائفي اللبناني الولاّد للحروب والأزمات،
تستعين السلطة بفزّاعة "التوطين" لترهيب الشارع وتغليب مصالحها الضيقة في
بثّ خطاب عنصري بغيض، ولا ينطبق هذا المصطلح على حالة اللجوء، فالتوطين أو الاستيطان
هو استبدال قسري لجماعة وافدة أو محتلة بأخرى أصيلة، المثير للسخرية والمؤلم معاً أن
سلطة الطائف أمعنت في إقصاء الفلسطيني تحت ذريعة "حق العودة"، والنتيجة مزيد
من الفقر والبطالة والظروف البيئية السيّئة ضمن المخيمات التي منع عنها إدخال الإمدادات
الصحية ومواد بناء، كان الفلسطينيون مع ازدياد أفراد عائلاتهم يضطرون للتوسع عموديّاً
ضمن رقعة جغرافية ثابتة وبشكل غير آمن، وبلغ متوسّط عمر الفرد في مخيّم شاتيلا 45 عاماً،
ويموت عشرات اللاجئين سنوياً صعقاً بالكهرباء الممدّدة عشوائياً في مخيم برج البراجنة.
حتى نهاية التسعينيات هاجر نحو مائة وثمانين ألفاً، واتّسعت المخيمات أكثر من ذي قبل
للسكان الفقراء من اللبنانيين والعمال العرب والأجانب ولاحقاً لاجئي مخيم اليرموك من
سورية، ويمكن القول إن سلطة الطائف في سنوات ما بعد الحرب كانت تنتظر ما ستؤول إليه
مفاوضات مدريد وأوسلو التي أيضاً، تركت مصير اللاجئين الفلسطينيين للرياح.
الإحصاء ما قبل الأخير للأقليّة الخرساء؟
يخضع تعداد اللاجئين الفلسطينيين أيضاً
للتجاذبات السياسية اللبنانية، وبين التضخيم والتخفيض تتضارب أرقام اللاجئين المسجلين على لوائح أونروا وهم (436,154) مع المسجلين في المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين،
حيث إن عدداً منهم هم لبنانيون ضمن التصنيف القانوني لكل من كان مقيماً على أرض فلسطين
قبل العام 1948 وتهجر قسراً لكنهم غير مسجلين في دوائر الدولة بحكم مواطنيتهم، إضافة
إلى قرابة 75 ألف لاجئ من أهالي القرى السبع تمّ منحهم الجنسية اللبنانية بهدف تحقيق
توازن طائفي في مرسوم "5247" صدر بعد الحرب ولازالوا مسجلين كلاجئين فلسطينيين
في دوائر الدولة وعلى لوائح الأونروا أيضاً، أما التجنيس بهدف التوازن الطائفي فقد انسحب
على عدد من الحقبات، مثل تجنيس معظم المسيحيين الفلسطينيين إضافة إلى الأثرياء وبعض
العائلات الكبيرة، التي تمتد إلى فلسطين قبل تقسيم سايكس بيكو بهدف زيادة نفوذ هذه
العائلات السياسية وبلغوا نحو 30 ألفاً مع بداية النكبة، وشهدت بداية عهد الرئيس ميشال
مرسوماً قضى بتجنيس عشرات من الأثرياء الفلسطينيين مع عائلاتهم.
نهاية العام 2017 برعاية رئيس الحكومة
السابق سعد الحريري أٌعلن ما رشح عنه الإحصاء الأخير للفلسطينيين في لبنان والذي قامت
به "إدارة الإحصاء المركزي في لبنان" و"الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني"
و"لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني" لتعلن عن رقم صادم وهو 174,422 فرداً،
سرعان ما قوبل الرقم المخفّف بسجال سياسي جديد، تداولت الأوساط أن يكون 225 ألفاً،
وأطلّت حينها أصوات سياسية تفيد بـ "ستمائة ألفاً". في ذلك الوقت كان المسرعون
إلى تلقّف "بشارات" صفقة القرن يفعلون أفعالهم، أعلنت أونروا عجزها عن الاستمرار
بعد توقف الدعم الأميركي، وحوصر الطلاب الفلسطينيون بوقف منحهم التعليمية في الجامعات
الأميركية بوصفهم "إرهابيين"، الأغرب أن"افلاس" أونروا لم يمنع
وفود ملايين اليوروهات من الدول المانحة، على الأقلّ يمكننا مراجعة إعلان وزير الخارجية
لشؤون الشرق الأوسط البريطاني جيمس كليفرلي جهاراً عن منح اللاجئين الفلسطينيين 33
مليون استرليني لتحصينهم صحياً وعلمياً خلال جائحة كورونا صيف 2020، وليس خافياً أنّ
أونروا في فسادها وقرصنتها لحقوق اللاجئين استطاعت استغلال جائحة كورونا لإحصاء جرى
بتكتّم، وحيث كانت الحكومة اللبنانية تطلب منع الفلسطينيين من العودة إلى لبنان خلال
الإقفال العام، كانت أونروا توزّع إعانتها المالية على العائلات الفلسطينية اللاجئة
وقدرها لم يتجاوز عشرة دولارات للفرد بشرط حضور الأفراد شخصياً أي بقصد إحصائهم، ما
يعني عدم إحصاء اللاجئين الذين حشروا في البلدان التي يعملون فيها أثناء الإقفال العام،
كان الأميركيون وحلفاء إسرائيل يحاولون الضغط لتعديل التعريف القانوني للاجئ و المتحدرين منه، أي حصرها باللاجئ عام 1948 وإسقاطها عن أولاده وأولاد أولاده، تحاول القوى هذه
ممارسة هذا الضغط لتقليص عدد اللاجئين عبر الشاهد القانوني التاريخي على اللجوء أي
"أونروا"، بين نهاية 2017 و2019 ساهم أحد كبار سماسرة الهجرة الذي بات معروفاً
بالاسم في تسفير عدد كبير من اللاجئين مقابل مبالغ مالية بالدولار، باع اللاجئون، في
مخيم البداوي شمال لبنان خصوصاً، بيوتهم ليهاجروا، وعلى الأقل فإن هذا التهجير كان
يجري حتى وقت معيّن بلا عوائق، ما بدا من معطيات أشار بأنّ هذه الهجرات كانت منظّمة
ووصفت هذه الهجرة في تلك المرحلة على أنها كانت منظّمة في الوقت اللبناني الضائع، وحيث
لا أرقام للمهاجرين الى شتات آخر في تلك المرحلة الغامضة. وفي ظلّ انسداد الأفق وغياب
مرجعية راجحة للشعب الفلسطيني، يجدر السؤال، ماذا تبقى من اللجوء الفلسطيني في لبنان؟
المصدر:
العربي الجديد