مخيم اليرموك أخر الخيام
بقلم: أيمن خالد
كنت لا أريد أن أكتب بالشأن السوري لأننا كفلسطينيين تعلمنا من مآسينا الطويلة، ومن الحروب الكثيرة التي خضناها تحت عناوين مختلفة، تعلمنا أن الأرض التي نختلف أو نتفق عليها، لها في نهاية المطاف أهلها، وهم سيختلفون ويتفقون ويتقاسمون حصصهم، وأننا وحدنا سنحمل حقائبنا ونرحل من جديد.
أردت أن اصمد في مخيمنا حتى آخر لحظة، وتحملت كل صنوف المعاناة حتى سقطت القذائف على بيتي، وخرجت بأطفالي من تحت الركام وجوههم مغبرة، ورحلنا من مكان إلى مكان، ومن حارة إلى قبو، تلاحقنا الطائرة والراجمة والقناص، كل ذلك في مكان ضيق في الدنيا، لا يعلم كثير من أهل الأرض، أن هذا المكان الذي يسميه السياسيون عاصمة المقاومة الفلسطينية، هو في حقيقة الأمر عاصمة البؤس الفلسطيني في الشتات، فإذا كانت بيوت مخيم اليرموك ليست من الصفيح شأن مخيماتنا الباقية، فمخيم اليرموك يختصر الألم الفلسطيني، ففي كل بيت من بيوت الفلسطينيين هناك مأساة لا توصف.
ماذا يملك الفلسطيني في الشتات، ومن منكم يعلم ما هو رأسمال الفلسطيني في الشتات، فنحن تركنا وطناً جميلاً، ولم يمنحنا العرب أكثر من خيمة وبيت من الصفيح، باستثناء هذا المخيم الذي كدح أهله وهم يجمعون حجراً على حجر من أجل أن يستروا عورتهم فيه، فالبيت هو أغلى ما يملكه فلسطيني الشتات، لأن وعود العرب في التحرير والعودة ظلت وعودا، فمن أيلول إلى لبنان إلى ليبيا والكويت والعراق ثم مخيم اليرموك، ظل الفلسطيني يعلم في قرارة نفسه أن لحظة رحيله قادمة، وكان واثقاً من شيء واحد، أن العرب لن يفعلوا هذا الرحيل لأجل فلسطين. لا تستغربوا أن يبكي فلسطيني على بيته، لأننا من شدة الوجع الذي عشناه كان البيت هو آخر ملاذ لنا في الدنيا، فنحن الذين نمنا في الطرقات، ونمنا في الخيمة والعراء، وتسللت إلى أوجاعنا كل الآم الرحيل، ندرك قيمة حملنا لأطفالنا ورحيلنا بهم من حارة إلى حارة، ومن شارع إلى شارع، فبيوت المخيم بنيت على عجل، وكنا ولا نزال نحسب حساب المطر والشتاء، وظل ذلك يؤرقنا، ولكننا لم نحسب حساب هذا القصف الهائل، ولم نحسب حسابات السياسيين الذين يريدون تسجيل مواقف سياسية باسمنا، وباسم جراحنا، ونحن ندفع الثمن وهم يتفرجون.
نحن لسنا معكم ولسنا ضدكم ولسنا مع أحد ولا إلى أحد، نحن مع وجعنا، وصبرنا ومعاناتنا، وكنا كل ما نسعى اليه من ربيع العمر إلى خريفه هو أن نصنع من أبنائنا القدرة على تحمل الشق الثاني من الأعباء، ولكن أن يعود أبناؤنا للبحث عن الخيمة التي نسيناها منذ زمن، فتلك مسألة بحجم الضمير، وحجم مرارة الصبر. ليس مطلوباً أن نثبت لكم حجم ولائنا، لأن المطلوب من كل العرب وكل من يملك ضميراً أن يمنح هذا اللاجئ البائس شيئا، فنحن مجرد بيت ضيق في زقاق أو حارة، ومجرد وثيقة لاجئ، لا يعترف بها أكثر العرب، وظلت هذه الوثيقة عنوان إذلالنا في المطارات العربية، هذا ما حصلنا عليه في دول العروبة، ووحده ظل الفلسطيني الذي يذهب إلى دول الاستعمار أو الإمبريالية أو سموا ما شئتم، وحده الفلسطيني الذي يستطيع أن يكون إدوارد سعيد، ووحده الفلسطيني في بلاد العرب أوطاني الذي عليه أن يثبت لأوطان العرب أنه وطني.
مصيبة عندما نشعر بالاطمئنان على أبنائنا الذين يعيشون في الغرب، ومصيبة أن نتمنى في هذه الساعات أن نكون هاجرنا مثلهم، ومصيبة لأننا نشعر الآن بالندم أننا لم نختر طريق الهجرة، ومصيبة أن نكتشف أن المخيم الذي حلمنا أن يكون جسر العبور إلى الوطن، لم يكن ألا سجن السنوات الماضية، أضعنا فيه وقتا طويلا، ونحن نحسب اننا نحافظ فيه على هوية مزقها العرب أكثر من غيرهم.
أنا لا اطلب بناء وإعمار مخيم اليرموك من جديد، ولكنني أطلب إزالة كل المخيمات الفلسطينية من الوجود، واجعلوا الفلسطيني ينتشر كالطير في الفضاء، أو الفراش في الأرض، فنحن لا نريد كينونة، في هذا العالم الممزق بالصمت والكذب.
عندما خرجت من مخيم اليرموك تحت القصف كانت طفلتي الصغيرة ذات الخمس سنوات تتنفس بصعوبة بفعل دخان القذائف، واستوقفتني كلمة منها، بابا أنا تعبت من المشي، في هذه اللحظة بالضبط قررت أن أغير كل مسير حياتي لأبحث عن رحيل أختاره بنفسي، والسبب أنني قبل أكثر من أربعين عاما، كنت أمر بنفس الموقف، وكنت أمسك بثوب أمي ونحن نغادر حاراتنا في مدينة اربد تحت القصف، كنت أتنفس بصعوبة، وكنت لا اعرف أين أسير، وكنت أتذكر كلام عمتي صباحا عندما جاءت الينا فزعة وهي تقول إن لحم الناس اختلط عند الفرن في مخيم اربد.. كانت الأيام تكرر نفسها في المخيم، لتعود لتثبت لنا أن المخيم لم يكن محطة انتظار للعودة إلى الوطن ولن يكون.
* كاتب فلسطيني
المصدر: صيداويات