القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

مخيم اليرموك: النأي بالنفس لم يمنع التغريبة الثانية

مخيم اليرموك: النأي بالنفس لم يمنع التغريبة الثانية


بقلم: محمود السرساوي

بدت الطريق بين فرن «الزاهرة» ومدخل مخيم اليرموك طويلة برغم أمتارها القليلة، فمن دوار «البطيخة» كما يحلو لأهل المخيم أن يسموها إلى ساحة «الريجة» حيث يبدأ المشي في الشوارع الخلفية تجنباً لشهوات القناصين ورغباتهم الدائمة في كسر الملل وتربية الموت، تنتابك ارتعاشة المتوغل في منطقة مزروعة بالألغام، وتسأل نفسك هل هذه هي «عاصمة الشتات» الفلسطيني كما يسمونها؟! فمشاهد الدمار في ساحة «الريجة» بداية والمباني المحيطة بـ«محكمة اليرموك» على الطرف الآخر القريب من شارع «الثلاثين» لا تقول ذلك. وشارع اليرموك الذي لا يعرف النوم حتى في ساعات الليل المتأخرة بدا اليوم مقفراً في وضح النهار، فلا باعة ولا محلات ولا وجوه سوى المغادرين في» سوزوكيات» قديمة، وقد تربع خلفها الأطفال الصغار بين ما تبقى من أثاث البيت المهدم ربما من قذيفة هنا أو هناك. وكل من تسأله عن الحال يجيبك بتذمر واضح «هاي مو عيشة». لا يتغير المشهد بين حملة السلاح وحواجزهم داخل المخيم وخارجه.

بقايا وآثار

ينبهني صديقي لرؤية تلال القمامة أمام شوارع رئيسية كانت نموذجاً للنظافة قبل ذلك، استوقف أحد الشباب المارة واسأله عن الأمر! فيضحك معلقاً «شو زبالة ما زباله، ليش في بلدية ولا سيارة ولا عمال... شو عم تحكي أنت...»، وبدا كأن السؤال يقيم في عالم غير عالمه. نتجاوز ساحة «الكتل» خلف «حلويات نبيل ونفيسة»، حيث يبدو أن معارك طاحنة قد حدثت من كثرة الأتربة والحجارة والزجاج المتناثر على الأرض والثقوب الواسعة في الجدران. ونتابع سيرنا نحو شارع المدارس الذي شهد غارة عنيفة خلفت قتلى وجرحى وأدت لانهيار الجدران الخلفية للمباني الملاصقة لمدرسة الجرمق، إثر دخول «الجيش الحر» إلى المخيم. نتوقف قليلاً أمام مبنى «آل الزبن» الذي اخترقت قذيفة طابقه الثاني من الخلف وعبرت من الجهة الأخرى تاركة علاماتها واضحة على بناء مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ جورج حبش.

الفدائي

ونسأل أم جمال الستينية التي فقدت ابنها برصاصة قناص قبل أن يتناثر زجاج بيتها وتطير أبوابه بعد الغارة، كيف حدث الأمر؟ تتنهد وكأنها تستعيد ذاكرة غالبت في نسيانها «كان يعيش من خلال البيع على العربة، يحفى وهو يجول في شوارع المخيم ليبيع الترمس والحمص أحياناً، ولا أعرف لماذا أختاره القناص ابن الحرام... لم يكن يحمل سلاحاً أو يلبس لباساً عسكرياً».

تستدرك كمن انتبه لشيء مهم خاف أن يفوته بالكلام، وتقول «هو لمعلوماتك فدائي قديم ظل أكثر من 18 سنة مقاتلاً في صفوف الفدائية في لبنان لكن قتلوه الآن، وهو بحالو ما ألو مع حدا».

وتسهب في الشرح خاتمة دمعتها العاصية بالقول «تحملنا كل شي بس انو يصير الموت فوق راسنا وراس ولادنا، هاي الله ما قالها، قال شو اللي جبرك على المر غير الأمر منه»، في إشارة لبقائها في المخيم.

تغريبة ثانية

وما حدث بالتأكيد ليس وليد اللحظة كما يرى الإعلامي محمد شحادة، عندما سألناه عما حدث ليغدو المخيم هكذا، فهو يجيب أن «المخيم منذ الاجتياح الإسرائيلي لبيروت العام 1982، وانفراط عقد البنية الفلسطينية المسلحة وتوزعها في إرجاء الأرض آنذاك، افتقد الرمز الجامع وقتها في صورة الفدائي. وتبدلت الكثير من القيم والتصورات وأضحت معها المخيلة الشعبية الجماعية الفلسطينية تواقة لطقس الشهيد وخروج المخيم عن بكرة أبيه خلف جنازات الشهداء أبطال العمليات داخل الأرض المحتلة».

ويتابع شارحاً رؤيته التحليلية: «برغم كل المتغيرات التي حدثت بعدها من الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتوقيع اتفاق أوسلو وصولاً للثانية، وما بينهما من صراعات وحروب توجت باحتلال العراق وتصاعد وتيرة الهجمة على المنطقة، أخذت فجوة المخيلة بالاتساع مع تزايد مساحة الخيبة والإحباط، والشعور بعجز الفصائل عن إقامة المظلة الجامعة وتعزيز الشعور بهوية كفاحية خاصة بجماهيرها التي لم تتردد يوماً بتقديم الغالي والنفيس لتحقيق أهداف الثورة».

ويضيف رداً عن إشارتنا حول الفراغ الذي تركته قامات فلسطينية كبيرة برحيلها، «بالتأكيد كان لخسارة قادة كجورج حبش وأبو علي مصطفى وياسر عرفات وقعه المزلزل على الحال الفلسطيني الذي يزداد انقساماً واقتساماً مع الأيام». وها هو «اليرموك» يعيش تغريبته الثانية، وفق تعبيره، في زمن «الربيع العربي»، كأنما قدر الفلسطيني أن يكون راثياً أو مرثياً في الحالة العربية ترسيخاً لمعناه التراجيدي بعدما فقد القدرة في العثور عليه إلا من خلال دمه «الذي يتسلق الجدران»، بحسب ما قال محمود درويش.

ويوضح أسامة حسن (45 عاماً) بداية المسألة، بأن المخيم تعرض للقصف أكثر من مرة بقذائف الهاون، واختلف المعارضون والموالون في تحديد مصدرها، تنادى عدد من المثقفين والفعاليات الشعبية إلى مناشدة الفصائل بالعمل على وقف هذا القصف. ويردف في الربط بين الحدث و«الربيع العربي» قائلاً: «شخصياً أقول لم أر في هذا الربيع العربي حتى اليوم من نبت ديموقراطي أو مدني سوى نبت اللحى... والأنظمة العربية مستعدة للتعامل مع الشيطان في سبيل بقائها، وبقي أن أقول كيف تصادف التقاء قصف المخيم مع دخول المسلحين إليه؟»

مكانة اعتبارية

لكن من يتحمل مسؤولية ما حدث؟ وما هو الدور المفترض أن تلعبه الفصائل في هذه المحطة الفاصلة، ومن يعيد أهل اليرموك إلى بيوتهم؟ حملنا هذه الأسئلة إلى عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية وعضو المجلس الوطني مسؤول الساحة السورية «أبو خلدون»، فأكد لنا أن «فصائل منظمة التحرير ومنذ بداية الأحداث اتخذت موقفاً واضحاً بالنأي بالنفس، ودعت إلى تحييد المخيمات الفلسطينية والفلسطينيين عن الأزمة السورية، وما زال الموقف ذاته حتى هذه اللحظة». وأضاف «نحن نبذل جهودنا كفصائل منظمة تحرير منذ وقوع الكارثة في 17 كانون الثاني والمتمثلة بالنزوح الكبير من أجل عودة أبناء المخيم وتوفير ما يلزمه الأمر من وسائل معيشية وأمن وأمان حتى يستعيد المخيم عافيته»، مشدداً على عبارة «أن يستعيد المخيم المخيم»، فاليرموك، بحسب تعبيره «ليس منطقة جغرافية وحسب، بل له مكانة سياسية واعتبارية تحمل عنوان اللاجئين وحقهم في العودة إلى وطنهم».

لكن السؤال عن المطلوب الآن ظل قائماً، وقد توجهنا به إلى عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو أحمد فؤاد، فأجاب «نحتاج أولا لموقف موحد يمكن ترجمته على الأرض، وليس موقفاً نظرياً أو إعلامياً، وثانياً العمل على إعادة أبناء المخيم فوراً ودونما تأخير ولا يتم ذلك من دون انسحاب المسلحين، واختفاء المظاهر المسلحة داخل المخيم وعلى مخارجه، وإدخال المتطلبات الحياتية والمعيشية، ووقف كل عمليات القنص والقصف من أي جهة كانت، ثم مضاعفة الدعم من جميع الفصائل لشعبنا في سوريا بشكل عام، ولليرموك بشكل خاص، وتشكيل هيئات مدنية من الفصائل ومن الشخصيات المستقلة غير المسلحة لإدارة وتسيير شؤون المخيمات الداخلية». وختم أبو أحمد حديثه بالدعوة إلى وحدة الصف الفلسطيني.

وخرجنا من المخيم لكنه لم يخرج منا، والأشياء لم تتغير، والإجابات تعددت بتعدد الأسئلة، وظل اليرموك بحاجة لمن يقرع جدران الخزان.

المصدر: السفير