القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

مخيم اليرموك.. حيثيات الاستخدام وحقيقة التوريط

مخيم اليرموك.. حيثيات الاستخدام وحقيقة التوريط

طارق حمود

يقف مخيم اليرموك كما كان على الدوام، حكايةٌ من حكايا الشهداء والدماء، وتقف جدرانه بشموخ، موشحةً باختلاط صور من قضوا لأجل فلسطين بيد الاحتلال الإسرائيلي، ونعوات من قضى عليهم نظامٌ لم تختلف ممارسته بحق المخيمات كثيراً عما سلكه القاتل الأول. اليرموك الذي يُسمى عاصمة الشتات الفلسطيني، استحق لقبه هذا عبر عقود من عمر اللجوء ومآسيه وعن جدارةٍ عبر قوافل لم تتوقف من الشهداء، حتى في اللحظة التي أُغلقت فيها طرق هذه القوافل، كان لقوافل الشهداء طريقها وعنوانها وصرختها، التي صُنعت على مداخل المخيم، وبين أزقته هذه المرة.

فوق الشهور الخمسة من الحصار المحكم على أطفاله وشيوخه ونسائه، يمضي اليرموك والكوارث لا تكاد تحتمل عدّاً، من الكارثة الصحية بمنع اللقاحات عن أطفالٍ مهددون أن يكونوا حطباً لمرضي شلل الأطفال، والحصبة في القرن الحادي والعشرين، والذي يهدد بحصد خمسة أطفال يومياً وفق تقديرات طبية، إلى الجفاف وغيره من أمراض الجوع التي حصدت حتى الآن ما يقرب من 30 إنساناً في مشهد لم يعرفه إلا صومال أفريقيا في الحِقَب التي باتت منسيةً في وعي العالم الجديد، إلى المأساة الغذائية واليومية التي بات فيه مجرد الخبز من أحلام العائدين هناك، وكلّه تحت قصفٍ لا يتوقف، لايرعى فيه القاصف إلّاً ولا ذمة بمدني شيخاً كان أم طفلاً، فأي شبر داخل المخيم هو هدف مقبول طالما أنه يريق دم الفلسطيني هناك.

هذه مقدمةُ إنشائية امتزجت فيها كلمات العاطفة بأدنى حقيقة، يمكن أن ينقلها المتابع لواقع الحال في عاصمة الشتات الفلسطيني، التي لابد من بيان بداياتها في ظل احتدام الرأي حول المسؤول عن توريط المخيم وإيصاله إلى هذا الدرك الدموي.

فحتى منتصف الشهر السابع من عام 2012 وبرغم مرور سنة وأربعة شهور على اندلاع حركة الاحتجاج السورية في وجه النظام الحاكم، لم يكن لليرموك كما كل المخيمات الفلسطينية فيما عدا "درعا" أي نشاط يذكر في تطورات الحدث السوري، نظراً للذاكرة الثقيلة التي ترسخت في الوعي الجمعي الفلسطيني حول التجارب المريرة لتوريط الفلسطينيين في الشأن المحلي للدول العربية من جهة، وإدراكاً أن أقلية سكانية لاتتجاوز 2.5% من مجموع السكان لن يكون لها أي دورٍ محوري في تغيير مسار حدث بحجم الذي يجري في سورية، وبرغم وجود مجموعات الجيش الحر في مناطق الحجر الأسود والتضامن المتاخمتين للمخيم منذ بداية العام 2012 إلا أن المعادلة كانت مفهومة وواضحة لكل الأطراف، في ضرورة تجنيب المخيم الفلسطيني لأي تجاذب. إلا أن طرفاً فلسطينياً في تلك اللحظات الحاسمة التي كان يخوض فيها النظام أشرس معاركه في حي التضامن المذكور، طرح فكرة تشكيل قوة أمنية مسلحة داخل المخيم لما أسماه بالحرف "حماية المخيم من الطرفين" أي المعارضة والنظام، التي عارضتها كل الفصائل الفلسطينية والفعاليات التي حضرت اللقاء، واعتُبر هذا المقترح وصفة جاهزة لتوريط المخيم، فكانت أن أدارت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة ظهرها لهذا الإجماع، معلنةً أنها ستشكل هذه اللجان الأمنية بنفسها، كما أعلن أمينها العام أحمد جبريل حينذاك، وفي وقت لم يكن أعداد الضحايا الفلسطينيين في كافة أنحاء البلاد، وعلى مدار عام وأربعة شهور قد تجاوز 83 شهيداً فلسطينياً، منهم أقل من عشرين شهيداً من أبناء مخيم اليرموك، إلا أن الشهور الأربعة التي عاثت فيها لجان القيادة العامة بالمخيم، أحصينا 241 شهيداً من أبناء مخيم اليرموك فقط في ظرف 4 شهور فقط، عاشها المخيم بقلق غير مسبوق بفعل الاشتباكات المستمرة بين لجان القيادة العامة من جهة، والجيش الحر المتاخم للمخيم من جهة أخرى، والذي اعتبر وجود قوات جبريل على تخومه الوجه الفلسطيني للنظام الذي يتصارعون معه. لم تكن هذه مجرد شكوك، فالموافق والمخالف يدرك حقيقة انتماء لجان القيادة العامة في هذه المعمعة.

حتى منتصف ديسمبر 2012 بقيت حالة الشد والجذب بين الطرفين، إلى أن انهارت لجان جبريل بعد قصف طيران الميغ الحربي السوري لجامع عبد القادر وسط مخيم اليرموك (كانت المنطقة تحت سيطرة كاملة للقيادة العامة) متسبباً بمجزرة بحق العائلات المدنية الفارّة من جحيم المعارك في الأحياء السورية المجاورة، وكان انشقاق العشرات من هذه اللجان أمام مشهد الحقيقة الراسخة في مجزرة جامع عبد القادر سبباً رئيسياً في دخول الجيش الحر للمخيم وطرد لجان الجبهة لخارج المخيم بعد انهيارها بالكامل.

المرحلة الجديدة التي عاشها مخيم اليرموك بدخول مجموعات الجيش الحر من الأحياء المجاورة لم تكن أفضل حالاً من سابقتها، وربما فاقتها، نتيجة أعمال السلب والنهب التي مُورست بحق بيوت ومحال المدنيين وغير المدنيين من أبناء المخيم، وصلت لدرجةٍ لم يعد من الممكن إيجاد ولو بيت واحد كان قد هجره سكانه دون أن يُنهب أو يُسلب، بعملية ممنهجة أثارت تساؤلات حول جدواها للثورة، وماهية أشخاصها. في هذه الأوقات كان أبناء اليرموك يعيشون تحت وطأة نظام يحاصرهم من الخارج، ومجموعات تنهبهم وتسرقهم من الداخل، وهو ما حدا بأبناء المخيم إلى بداية تشكيل مجموعات مسلحة خاصة بهم (لم يعرف لها أي نشاط خارج المخيم كونها لم تكن قد تشكلت قبل حصار اليرموك)، عاشت صراعها مع كل الأطراف، إلى أن تمكنت من طرد المجموعات التي مارست أعمال السلب والنهب داخل المخيم بعد أن حُصرت الممارسات بمجموعتين، يتزعم أكبرهما شخص من منطقة الحجر الأسود ذاع صيته، وصيت عمليات النهب التي مارسها ومجموعته المسلحة تحت مسمى الجيش الحر، وهو ماكان معروفاً للقاصي والداني في مخيم اليرموك، إلى أن اختفى هذا الشخص بعد طرد مجموعته من المخيم، لتتواتر الأخبار أنه شوهد في "عمله القديم الجديد ربما" داخل فرع فلسطين الأمني ذائع الصيت، فيما أذاعت وسائل إعلام مقربة من النظام أخباراً عما سُمي "انشقاق" المدعو "بيان مزعل" ومجموعته عن الجيش الحر وانضمامه للنظام، لتتكشف القصة بشكل أوضح عن شبه فضيحة، إذ أن "مزعل" والذي ادّعى انشقاقه عن النظام مع بدايات الثورة وتشكيله لمجموعة مسلحة لم تمارس من العمليات سوى أفعال النهب والسلب الممنهجة داخل مخيم اليرموك آنفة الذكر - لم يكن إلا اختراقاً نوعياً للنظام لصفوف خصومه بهدف الإيقاع بين الفلسطينيين وجيرانهم السوريين في الحجر الأسود، وهو ما لاتزال آثاره جليّةً في المشهد حتى اليوم.

كان مخيم اليرموك يقبع تحت حصار جزئي منذ سقوط لجان القيادة العامة، من خلال تقييد حركة الدخول والخروج للمواطنين وما يُسمح بإدخاله معهم، وفق طريقة منهجية للإذلال على حواجز مداخل المخيم. إلا أن اللافت للنظر أن الحصار المحكم على المخيم ومنع الخروج والدخول منه وإليه، ومنع كل مصادر الحياة عنه، تزامنت مع كنس مجموعات السرقة والنهب الممنهج إلى خارج المخيم، لتبدأ المعاناة الجديدة لأهل المخيم، بما لايتصوره عقل بشر، ولتنتهِ تجارة "مجموعات النهب والسرقة" آنفة الذكر ببداية تجارة جديدة تقوم على منع كل أساسيات الحياة عن المخيم، من خلال حواجز "الرفاق" على مداخل المخيم، التي يسيطر عليها لجان القيادة العامة والنظام، والبدء بتهريب المواد الأساسية بالقطارة، وبأسعار خيالية وصل فيها كيلوا الرز إلى 9000 ليرة سورية (65 دولاراً) وليتر المازوت (الديزل) الضروري لتشغيل مستوصف، أو ماتبقى من مستشفى، بأكثر من عشرين ضعفاً عنه في السوق السوداء خارج المخيم، فضلاً عن السوق العادية، ليسقط الطفل داخل الصف المدرسي (الذي أسسه ناشطون) مغمىً عليه من الجوع، وليفتي شيوخ المساجد بإباحة أكل لحم القطط والكلاب، وليموت الأطفال من الجوع، بمشهد تراجيدي ذكرنا بحصار مخيمات لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، لتتقاطع معها مصادفة الجوع بمصادفة صانعيه، التي شاءت الأقدار أن يكونوا هم أنفسهم من فلسطينيين ولبنانيين وسوريين.

الحرب قذرة بكل مافيها من ربح وخسارة، ولكن أقذر من الحرب تجارتها، والأقذر من تجارتها تاجرها، الذي ينتمي لأبناء جلدة المتاجر بهم، وهو التاجر الذي كانت حسابات البزنس خاصته تدفعه دفعاً، لإفشال أي مبادرة للحل في اليرموك، والوقوف بوجهها. فالقضية اليوم بعد تعقد المشهد، وتقاطعه مع مصالح مافيا الحرب، باتت أكبر من الحل السياسي الذي يستطيع فصيل أو منظمة أو وسيط عادي رعايته وإنجازه، فاعتقال مخيم اليرموك بهذه الطريقة الوحشية، سبقه ولايزال يرافقه اعتقال أبنائه، وقتلهم داخل السجون التي أحصت 131 حالة اعتقال لفلسطينيين تم قتلهم داخل المعتقل حتى الآن، لم تسلم جثامين 73 منهم، وهم جلّ من اعُتقل خلال السبعة شهور الماضية، التي اقتصرت حالتهم على تبليغ ذوييهم وتهديدهم في حال السؤال عنهم، تلك الجثث التي لا يُعلم لها طريق، أو بالأحرى طريق "أعضائها البشرية" إلا قادة مافيا الحرب، الذين باتوا يتعاملون مع كل معطىً من معطيات الأحداث على الأرض على أنه مؤشر استثماري مرتبط بارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه في السوق السوداء التي صنعوها، لتصبح الماركة المسجلة لحرب "التحرير" التي يخضونها في وجه شعبهم وأبناء جلدتهم، باسم المقاومة في وجه "المتآمر الكوني الغربي الأمريكي" الذي يتجهز لاستلام السلاح الكيماوي من أيدي "الممانعين الجدد".

المصدر: السبيل الأردنية