القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

مخيم اليرموك: شهداء البرتقال شهداء الخبّيزة

مخيم اليرموك: شهداء البرتقال شهداء الخبّيزة

أيمن خالد

آخر شهداء البرتقال في مخيم اليرموك هم الذين اقتحموا مجدل شمس في ايار/ مايو 2011 ، وبعدها بدأ الفلسطينيون يودعـــون ضحاياهم بصورة مختلفة وتبدلت القصة، حتى ذبحهم الجوع، فأصبح صاحب البرتقال يتسلل بعد مخيمه بأمتار قليلة فحسب، وجل همه أن يحصل على عشبة تنبت في الارض اسمها الخبيزة، من أجل ان يقتات بها هو وأطفاله، ولكنه غالبا لا يعود، هم شهداء الخبيزة، والحسرة والمرارة وبقية تفاصيل الالم.

الفلسطينيون أكلوا أوراق الاشجار والقطط والحيوانات الاليفة بعد أن ذبحهم الجوع، فأصبحت رحلة البحث عن الاعشاب تحت وطأة القنص هي سبيل الحياة الذي لا بد منه، فأكلوا كل ما هو أخضر بما فيه اوراق الصبار، فالمشهد العربي بتفاصيله المرعبة يبدأ بمخيم اليرموك، وبالطريق الى برج البراجنة وعين الحلوة واختلاف أماكن اللجوء. فالفلسطينيون، هم تفاصيل اللحظة المؤلمة، وتاريخهم ينسدل على اهدابهم، قصص الماضي ورعب المستقبل، ولوحة الامان في المخيلة، لم تعد وطناً عربياً يحتفل بهم، فالعرب لم يفعلوها، وفي أفضل أحوالهم لا تزال غالبية المخيمات وبعد عشرات السنين هي مجرد بيوت من الصفيح.

لكن عروبتنا وإذ تمن عليهم فتمنحهم هذه القطعة من البؤس، فعينك ايها الفلسطيني الآمن في بيتك، ان تتحسر لحظات الامل والامن، وهي عينك على اخر زقاق في الارض، هو بحجم الحلم واكثر، ولعل الهجرة باب النصر المؤجل، والرحيل عن بلاد العرب هو رحيل الى الجنة، فالأجانب ليس لديهم مخيمات، وليس لديهم اوراق الصبار، وليس لديهم كل الاختلافات التي عندنا كعرب، ولا يذبحون بعضهم مثلنا، ولا يستحلون بعضهم واعراضهم وهم يكذبون بصنوف شتى من الدعوات والحبر وتفاصيل الاقلام المعروفة.

ليس اليوم فحسب، ولكنه تاريخ مليء بالدم المباح، يمتد مئات السنوات، قد لا نريد ادراكه، ولا نريد فهم معانيه. ففلسطين في صميم الجرح العربي هي أكبر المصائب بالفعل، ولكنها أصغر الهموم، وما يجري عليها لا يقارن بما يجري في بلاد العرب، الذين لم يتعلموا من نكبة الفلسطينيين، فنكبوا شعوبهم، وجلسوا في مصاف الذين فعلوها بالأمس، فزعماء العالم يرحلون، وتبقى البلدان، وأما بلاد العرب، هي مدرسة فرعون في التاريخ القديم، وربما هي لغتنا في الحضارة، فزعماؤنا ينظرون الى شعوبهم من الأعلى الى الاسفل، فيرون الناس بحجم الاقزام، وشعوبنا تنظر للزعماء من الاسفل للأعلى، فتراهم عمالقة، وعلى نقيضنا تجلس الأمم على خط الافق، فينجحون لأنهم يرون بعضهم كما هي الحياة.

كان الفلسطينيون ساعة ظلم وألم، فاحتشد العرب حولهم، وأمدوهم بما استطاعوا، لكن الفلسطينيين على مرارة تجربتهم، احترموا اختلافهم، فهم أمة من الطوائف، ولا طائفية بينهم، وعوالم متباينة من السياسة، وأوجدوا ما يجمعهم، وهم عرفوا كل ألغاز الأرض، وكل المتآمرين عليهم من عرب وأجانب، وظل عنوان عدائهم مغتصب الأرض وحده، لأن السياسة تقتضي عدوا واحدا ولو كثر الأعداء، ولعل هذه الخصوصية، هي التي استدعت أن تحبسهم في نفق العرب، فكان العرب أخوف الناس من هذه الروح، التي سبقت عصر الربيع.

هم الفلسطينيون في الثمانينيات من القرن الماضي هم شركاء في جبهة الصمود والتصدي، وشركاء مع دول الخليج التي صنفها ذلك التاريخ بأنها الرجعيات العربية، وهم اصدقاء ايران، والعراق معاُ رغم الحرب، وهم يزورون أوروبا الشرقية ويزحفون للغربية، سفراء في زمن الطلاب، والهجرات الصغيرة، وهم حاضرون في السياسية الدولية، وأصدقاء الأحزاب على اختلافها، وهم مع بعضهم يجمعون الفرقاء في برلمان فلسطين، – المجلس الوطني الفلسطيني- من أجل أن يصبح الاختلاف بطاقة هوية معترف بها، هم سبقوا كل البرلمانات العربية، هم اخترعوا المعارضة احيانا، هم ارادوا كل شيء، كل تناقض وكل لون، لأنهم فهموا معادلة، لأنها فلسطين، هي تريد وتستوجب كل ذلك.

هم كانوا ثورة، والثورة تستدعي أن تكون نبيلاً في كل شيء، وهذا بالطبع قبل أن يدخل فايروس الفصائل والانقسام العربي على الفلسطينيين، وهم في تواصلهم مع كل حركات التحرر في العالم، والأنظمة، على اختلافها، تعلموا أن العالم كبير جداً، وهو أكبر من كل الجنرالات وأكبر من السياسات العربية، والاحزاب، وكل تفاصيل الانظمة ومشتقاتها التي تسير في طرقات المجد والعروبة والاستقلال وأعياد الشهداء وكل طرق صناعة المجد من ورق.

كان مخيم اليرموك اختصار فلسطين في الشتات، بكل ألوان الاختلاف فيه، وكان مخيم اليرموك، كل الفلسطينيين وكل العرب فيه، قصة انسجام تلاشت، واليوم يموت بطيئاً، لأنه صار جزءاً من مآسي العرب ، فنحن دخلنا من بوابة البرتقال، وكانت رائحة البرتقال الفلسطيني تفوح من دماء كل الشهداء العرب الذين شاركونا مسيرتنا، ومن كل البلاد وكل الألوان والملل، ونحن نخرج اليوم من بوابة الخبيزة، لأن العرب على اختلافهم شاؤوا وأدخلونا في متاهاتهم الداخلية، فهم لن يتفقوا، لأنهم لم يتعلموا أبجدية طريق الآلام، ولن يتفقوا، لأن البنيان والأهرام لا زالت بعد الف عام تبنى بأجساد العبيد.

المصدر: القدس العربي