مخيم اليرموك.. لا أرى لا أسمع لا أتكلم
بقلم: يونس أبو جراد
عنوان المقال ليس غريبًا، إن الواقع الذي نعيشه هو البائس، الغريب، العجيب،
وحتى لا أزيد من انتظار قارئي الكريم؛ سأشرح العنوان بإيجاز لا يخل بمعناه، فلا المقام
ولا الزمان يسمحان بالاستفاضة في منشأ تلك الحكمة الصينية، وذكر أسماء القرود الثلاثة
التي كانت تحمل تلك الشعارات: "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"، وكيف أن هذه
العبارة التصويرية أصبحت تفسيرًا مرتبطًا بالسلبية، قولًا وفعلًا، ولم تعد تحمل الأبعاد
الإيجابية التي أوحت بها من قبل.
لكن ما علاقة ذلك بمخيم اليرموك، عاصمة الشتات الفلسطيني، والشاهد الأكبر
على جريمة التهجير القسري لشعبنا الفلسطيني من أرضه ومقدساته؟، في مخيم اليرموك كان
يعيش نصف مليون فلسطيني قبل اندلاع الصراع السوري عام 2011م، أما اليوم فقد أصبح
"مخيم أشباح"، تفوح منه رائحة الموت والدمار، والدواعش "الفاتحين".
في إقامتهم المؤقتة كان الفلسطينيون في مخيم اليرموك يتجرعون الغربة والألم
جيلًا وراء جيل، لكنّ العودة _ولو بعد حين_ كانت النافذة التي يتسلل منها الأمل؛ ليعزز
قدرتهم على الصمود، فلا ينكسر بريق التحدي في عيونهم الحزينة، ولا يخبو العنفوان الذي
حملوه عقودًا من الوجع في قلوبهم البيضاء النبيلة.
منذ أيام تحاول "الدولة الإسلامية في العراق والشام" _واختصارها
"داعش"_ أن تكمل "فتحها العظيم" لمخيم اليرموك، أو لما تبقى منه
على قيد الحياة، ذلك المخيم الذي لم يعاد أحدًا، ظلَّ على الحياد، واتفق الجميع أن
يبقى المخيم شوكة في حلق الدولة الصهيونية فقط، لكنَّ العابثين أرادوا غير ذلك، فعاش
المخيم سنوات الجوع، والمرض، والموت، بعد أن فرض النظام السوري حصارًا عليه، ومنع المؤسسات
الإنسانية من الوصول بقليل من الماء والغذاء إلى أزقته الضيقة، وبيوته المتهالكة.
تلك جريمة لا تغتفر، لكن الفصل الآخر من الجريمة هو "لغة القرود"
التي يتبادلها العرب فيما بينهم، فهم "لا يرون"، "لا يسمعون"،
"لا يتكلمون"، ولسان حالهم: "ما لنا ومخيم اليرموك؟!؛ نحن مشغولون الآن
بصدِّ التمدد "الفارسي" على بلاد الإسلام والمسلمين"، إنه فقه الأولويات
لدى أنظمتنا العربية، التي تفكر مائة مرة قبل أن تشعر أو تعرب عن القلق، الذي عبّرت
عنه الناطقة باسم وزارة الخارجية الأمريكية قائلة: "إن الولايات المتحدة تشعر
بقلق عميق من الهجمات على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين من قبل الجهاديين"،
أما أنتم _يا إخوة العروبة والإسلام_ فيسألكم المخيم المنكوب: أفلا تشعرون؟!
لا تخيرونا بين موتين: أحدهما كان يأتي كئيبًا، بطيئًا، ينهش أبناءنا ويمضي
والدم يقطر من أنيابه السوداء، وآخر يخطف ما تبقى في المخيم من أرواح بسكين "داعش"،
أو سلاح مشبوه المصدر والبوصلة، وحتى لا نُتهم بالتفكير التآمري؛ نحن _السكان السابقين
لمخيم اليرموك_ لا نتهم أحدًا، والكيان الصهيوني موجود؛ فهو رأس البلاء، وهو المتهم
الأول والأخير، فما أكثر أذنابه، وما أرخص أدواته التي مارس بها الإرهاب ضدنا!
ولكننا نتساءل بما تبقى فينا من صوت مثقل بالحزن والأسئلة النازفة: ألا
مِن تحالف عربي مجيد لإنقاذنا؟، ألا مِن "عاصفة حازمة" تقلع الشوك من عيوننا،
تخلع الموت الأسود من أزقة مخيمنا؟، إننا لا نسألكم أن تعيدونا إلى أرضنا المحتلة،
ونقدر انشغالكم بصراعاتكم وحروبكم التي يتسبب بها الكيان الصهيوني، فتشتبكون وهو يتفرج
ويفرك يديه فرحًا بما يرى، ولكننا نسألكم حمايةً ورعايةً لن تكلفاكم كثيرًا، فهل إلى
ذلك من سبيل؟!
من عادة الطغاة والسفاحين في كل مكان وزمان ألا يقرؤوا التاريخ، وألا يستفيدوا
من دروسه الثمينة؛ لأنَّ القوة الغاشمة في أيديهم تعمي بصرهم وبصيرتهم، ولذلك لم يقرؤوا
قصة الفلسطيني مع الحياة، لم يروا مراوغته للمستحيل، لم يذوقوا مرارة لحمه المقاتل،
لم يجربوا قدرته على البقاء، وخروجه من تحت الدمار، ومن بين الرماد كطائر العنقاء،
الذي يمتاز بالجمال والقوة، وعندما يموت يحترق ويصبح رمادًا، ويخرج من الرماد طائر
عنقاء جديد، لذلك كله عاد الأغبياء لاختباره، وسيُهزمون.
المصدر: فلسطين أون لاين