مخيم اليرموك وجيرانه وسوسيولوجيا التداخل
بقلم: علي بدوان
رَسَمَت الأزمة الوطنية الداخلية في سوريا علامات (قديمة جديدة) في النسيج الوطني المشترك لعموم اللاجئين الفلسطينيين من أبناء مخيم اليرموك مع إخوتهم وأشقائهم من عموم أبناء الشعب السوري، خصوصاً من القاطنين منهم في محيطهم القريب، وهو محيط سوري متنوع ومتداخل معهم تداخلاً كبيراً منذ عقود طويلة.
وقد بات ذلك التداخل علامة فارقة وهامة تؤشر ليس فقط على مدى هذا التغلغل الموجود بين فلسطينيي سوريا وعموم المجتمع السوري بكل طوائفه في (سوسيولوجيا) مشتركة، بل يؤشر كذلك على مصير وطني وقومي واحد طالما تغنينا به على الدوام انطلاقا من قدسية القضية الفلسطينية وحضورها الساطع في الشارع السوري منذ العام 1948.
كما في التداخل اليومي في ظل الأزمة السورية، حيث سقط من أبناء مخيم اليرموك خلال الأيام العشرة الأولى فقط من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري 2012 (52) شهيداً من أبناء المخيم ليصبح مجموع شهداء فلسطين في الأحداث السورية حتى تاريخه نحو سبعمائة شهيد، منهم نحو ثلاثمائة شهيد من أبناء مخيم اليرموك وحده. فكيف نقرأ حال العلاقات بين مخيم اليرموك وجيرانه؟
25% من السكان وصبغة فلسطينية خالصة
نبدأ القول بأن مخيم اليرموك، بات منذ زمن طويل أكبر تجمع فلسطيني في الشتات على الإطلاق، يضم بين ثناياه نحو ربع مليون مواطن فلسطيني من أصل نحو سبعمائة ألف مواطن فلسطيني في سوريا منهم نحو (510) آلاف فلسطينيي من اللاجئين إلى سوريا منذ العام 1948 والمسجلين في قيود الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين، وفي سجلات وكالة هيئة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).
وتلك الأرقام والمعطيات ليست تقديرية، أو أرقام نطلقها على عواهنها، كما هي ليست دون مَرجعٍ يُعتَدُ به، فهي أرقامٌ حصلَ عليها كاتب هذه السطور من الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين ومن وكالة الأونروا ومن سجلات النفوس في مخيم اليرموك.
أما العدد الحقيقي للكتلة السكانية الكلية (فلسطينية وسورية) المقيمة في مخيم اليرموك وحدوده الإدارية المعروفة فتبلغ نحو مليون نسمة تقريباً، منها فقط نحو (25%) من الفلسطينيين، الذين يتركزون وسط المخيم أو فيما نطلق عليه بـ (لُبِ المخيم) بينما تقيم على حدود قشرته السميكة نسبياً تلك الكثافة السكانية ذات الأغلبية غير الفلسطينية.
ومع هذا فإن (السمة العامة) و(الصبغة الرئيسية) لمخيم اليرموك تبقى سمة وصبغة فلسطينية صرفة، حتى لوتدنت نسبة الفلسطينيين فيه عن النسبة المعروفة التي تقارب نحو (25%) من سكانه ومواطنيه.
وتلك السمة جعلت من شخص رئيس بلدية اليرموك وعموم مجلس إدارتها من الفلسطينيين، ولم يحدث أن ترأس بلدية اليرموك شخص غير فلسطيني منذ قيام المخيم حتى الآن، بالرغم من تابعية تلك البلدية لمحافظة دمشق ووزارة الإدارة المحلية.
إن السمة والصبغة الفلسطينية الصرفة لمخيم اليرموك بالرغم من وجود نحو (75%) من سكانه من غير الفلسطينيين، تعود في جوهرها لحيوية هذا التجمع الذي بدأ على يد اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا أول من سكن منطقته ووضع حجراً به في منطقة (شاغور بساتين) المعروفة جنوب دمشق منذ قيامه عام 1954، عندما قامت الهيئة العامة للاجئين ووكالة الأونروا بتوزيع الأراضي على العائلات الفلسطينية اللاجئة بواقع مساحة (48) متراً لكل أسرة مع مساعدة ومعونة في إعمار المنزل.
الدور الاستثنائي لمخيم الشهداء
كما تعود تلك السمة الفلسطينية الصرفة لمخيم اليرموك، لبروز الدور الفلسطيني فيه وعلى محيطه وفي عموم دمشق على كل المستويات، خصوصاً منها الدور التعليمي والتربوي والثقافي، والسياسي، وحالة النشاط العام، حيث تَضم مساحة مخيم اليرموك عشرات الأندية والملاعب الرياضية والكشفية ومركز (الأشبال) والمراكز والمؤسسات والمقرات والهيئات الفلسطينية المختلفة، بما فيها مؤسسات خدمية فلسطينية تقدم خدماتها لعموم المواطنين دون تمييز بين سوري وفلسطيني، ومنشآت وكالة الأونروا (التي يبلغ عدد مدارسها نحو 38 مدرسة)، والهلال الأحمر الفلسطيني.
إضافة لبعض المؤسسات الخدمية التابعة للجهات الحكومية السورية كالمركز الثقافي العربي في مخيم اليرموك والذي يعتبر من أكبر وأوسع المراكز الثقافية في سوريا بصالاته وقاعاته وفعالياته التي يطغى عليها الطابع الوطني الفلسطيني بحكم فعالية الجمهور الفلسطيني داخل المركز وفي برامجه النشاطية الدائمة.
وفوق كل ذلك، فإن خصوصية دور مخيم اليرموك على المستوى الوطني الفلسطيني العام، أكسبته سمته وصبغته الوطنية الفلسطينية، فمن مخيم اليرموك انطلقت الشرارات الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة، ومن على أرض مخيم اليرموك وجواره المباشر كان المعسكر الأول للفدائيين الفلسطينيين في بساتين ما بات يعرف الآن بحي التضامن وحي دف الشوك قبل قيام هذين الحيين أوائل سبعينيات القرن الماضي.
ومن مخيم اليرموك كان الشهيد الأول لحركة فتح (أحمد موسى الدلكي)، والجبهة الشعبية/القيادة العامة (خالد الأمين) والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (خالد أبو عيشة)، وجبهة التحرير العربية (نصر الغوري) ومنظمة الصاعقة وحركة فتح/الانتفاضة (محمد عمرين) وجبهة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية. إلخ.
وتحت ترابه استقرت جثامين الدفعات الأولى من الشهداء حيث قامت المقبرة الأولى لشهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة. وفي هذا السياق لا نبالغ في القول بأن نصف تعداد القوات الفلسطينية وطاقتها البشرية الموضوعة (تحت السلاح) والتي قاتلت أثناء حصار بيروت صيف العام 1982 كانت من أبناء مخيم اليرموك بما في ذلك قوات حطين وقوات القادسية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني والتي شكّلت القوة الضاربة الرئيسية في الدفاع عن بيروت وفي صد هجمات القوات "الإسرائيلية" التي حاولت أكثر من مرة اختراق بيروت الغربية والدخول لمعاقل المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكان منها على سبيل المثال معركة المتحف وسط بيروت والتي كانت المفخرة الكبرى في تاريخ العمل العسكري الفلسطيني وقد خاضتها الكتيبة (411 صاعقة) التابعة لقوات حطين وكان جل مقاتليها من أبناء مخيم الشهداء، مخيم اليرموك.
سوريو مخيم اليرموك
مخيم اليرموك، بقعة جغرافية كبيرة نسبياً، يتبع إدارياً لمدينة دمشق، حيث يلاصقها من جهة الجنوب، عبر حيي الميدان والزاهرة. فيما تحيط به من باقي الجهات والجوانب أحياء سورية مكتظة، غالبيتها أحياء شعبية، منها أحياء عشوائية لكنها رسمية قامت على أراض زراعية (طابو زراعي) تابعة لمناطق من غوطة دمشق الشرقية، ومنها أحياء (مخالفات)، ومنها ما يسمى بأحياء (الطَبَب) التي أقيمت فوقها منشآت سكنية متواضعة دون شرائها أراضيها باعتبارها أملاكا عامة.
فالأحياء السكانية السورية (الأحياء الشعبية أو ما بات يُعرف بالعشوائيات) التي تحيط بمخيم اليرموك، كانت ومازالت أحياء مُلتهبة في سياق الأزمة الداخلية السورية، حيث تُحيط بمخيم اليرموك من كافة الجهات تقريباً عدا الشمال منه المفتوح على حيي الزاهرة والميدان.
فإلى الشرق من مخيم اليرموك، وعلى امتداد نحو كيلومترين طولاً، يتجاور مخيم اليرموك مع حي التضامن عبر شارع فلسطين، وصولاً للجنوب الشرقي من اليرموك حيث تقع بلدة (يلدا) التي تتجاور في تلك المنطقة مع مخيم اليرموك، وصولاً إلى الجنوب من اليرموك حيث تقع أحياء الحجر الأسود، والجزيرة. أما غربي اليرموك فَتَحِدَهُ بساتين منطقة القدم والجورة والعسالي والأعلاف التي يفصلها عن اليرموك أتو ستراد شارع الثلاثين.
إن تداخل مخيم اليرموك مع جيرانه، ليس تداخلا جغرافيا فقط، بل هو تداخل إنساني بالدرجة الأولى، بين شعبين ملتصقين، وقد أدى وظائفه في ولادة (سوسيولوجيا) اجتماعية واحدة بتأثير فلسطيني طاغٍ، دفع عموم سكان مخيم اليرموك من سوريين وفلسطينيين للصراخ بالصوت العالي: بين فلسطين وسوريا.. احترنا على أي وطن نتوجع!
وفي تلك السوسيولوجيا، بات "سوريو مخيم اليرموك" فلسطينيين أكثر من كونهم سوريين، وهو ما دفع بقطاعات واسعة منهم للانخراط في العمل الوطني الفلسطيني وفي صفوف مختلف الفصائل الفلسطينية، فعدد الشهداء السوريين في العمل الفدائي الفلسطيني يقارب نحو ثلث شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة.
السوسيولوجيا الاجتماعية والعشوائيات
إن منبت تلك السوسيولوجيا، أنها قاربت أيضاً من الزاوية الطبقية الوضع "الطبقي والاجتماعي" بين حال الفلسطيني اللاجئ قسراً من أرض وطنه فلسطين وقد خرج منها (يد من الأمام ويد من الخلف: على حد تعبير المثل الشعبي الفلسطيني) وبين حال سكان تلك العشوائيات الذين كانوا إجمالاً من منابت طبقية فقيرة ومتواضعة (وبعضها من منابت طبقية مسحوقة) ومن فقراء الأرياف والمحافظات البعيدة ومن مهمشي المدن (الذين كان يُطلق عليهم الماركسيون العرب في أدبياتهم مسمى "البروليتاريا الرثة")، ومن طالبي العمل والمياومة (العمل بالأجر اليومي) في سوق الرزق في المعامل والمنشآت والبنى التحتية في العاصمة دمشق ومحيطها.
إن تلك الحالة الاجتماعية السوسيولوجية للعشوائيات المحيطة بمخيم اليرموك ومنها حي التضامن على وجه الخصوص، دَفعت قطاعات من سكان تلك المنطقة للبحث عن الوظيفة الحكومية حتى المتدنية في سلم "الراتب والرتبة الوظيفية"، ونمت معها ثقافة "ضارة" عنوانها "ترك الأرض الزراعية والبحث عن الوظيفة" وقد دفعت تلك الثقافة الأعداد المتزايدة من سكان الأرياف في المناطق البعيدة من مختلف المحافظات للقدوم لدمشق والإقامة في تلك العشوائيات.
وقد تكون سنوات الجفاف التي مرت على المنطقة الشرقية في سوريا قد أسهمت في تأجيج وتشجيع تلك الهجرات الداخلية، إضافة للتقاعس العام في تنمية الريف من قبل الجهات المعنية وإهمال أهمية توزيع المؤسسات الإنتاجية وحتى الوزارات على كامل بقعة الأرض السورية.
ومن بين تلك العشوائيات المحيطة بمخيم اليرموك، وغيرها البعيدة عنه والموزعة في عموم مناطق دمشق وباقي المحافظات، ازدهرت حالات التذمر الاجتماعي، واحتقنت معها روح التمرد والتي باتت بعد حين تحمل مضموناً سياسياً، بالرغم من توفر الخدمات الأساسية لتلك العشوائيات وخاصة في المجال المتعلق بالصحة والتربية والتعليم وانتشار المدارس فيها وباقي المرافق الخدمية.
ومن المهم، الإشارة إلى أن المناطق المحيطة باليرموك تضم بين ثناياها خليطاً من عموم أبناء الشعب السوري من كل المحافظات وحتى من كل الطوائف، وهو أمر أوجد حالة غنية من الألفة والتفاعل بين الجميع وساعد على حالة الانصهار الوطني، وقد ساعد على هذا الأمر أيضاً الحالة الوطنية الفلسطينية التي كانت ومازالت على الدوام حالة جامعة لا تقبل بمنطق الطوائف، بل تذم وتَلعَنَ أَصحابَها.
بل إن الزيجات المختلطة تميّز الحالة الفلسطينية في سوريا، فهناك المئات من الشبان أو الشابات الفلسطينيات ممن اقترنوا بسوريات أو سوريين من كافة الطوائف والملل.
وفي المقابل، كان ومازال فلسطينيو سوريا ومخيم اليرموك، الأجدر من جيرانهم على شق طريقهم الصعب والقاسي بالرغم من وجودهم كلاجئين خارج أرض وطنهم التاريخي، وقد يكون السبب في ذلك نتيجة انشدادهم الرئيسي نحو همهم الوطني ونحو بوصلتهم المتجهة نحو وطنهم فلسطين، فضلاً عن التجربة التي دعكتهم في مراراتها وعلقمها، ودفعت بهم نحو حفر الصخر بأظفارهم لتحسين أوضاعهم، والتركيز على تعليم أبنائهم، وهو أمر جعل من مخيم اليرموك (ورغم السوسيولوجيا المشتركة) متمايزاً في هذا الجانب عن حالة سكان العشوائيات المحيطة به، فبات مخيم اليرموك مدينة كبيرة وعامرة وخارج إطار ما يسمى بالعشوائيات وفق التقسيمات المرسومة والمصنفة في وزارة الإدارة المحلية السورية.
المصدر:الجزيرة