القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

مخيمات العاصمة: من حصار الحرب إلى حصار القانون

مخيمات العاصمة: من حصار الحرب إلى حصار القانون

بقلم: وليد حسين

نشأت المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت وضواحيها بعد النكبة مباشرة في مطلع الخمسينيات. عددها اليوم أربعة، مار الياس وشاتيلا وبرج البراجنة والضبية، حيث يعيش نحو 25 ألف لاجئ فلسطيني في معدل فقر بلغ نحو 60 في المئة وفق إحصاءات «الأونروا». تعرّضت هذه المخيّمات منذ نشأتها، إسوة بغيرها من مخيّمات اللجوء، إلى تبدلات جذرية على جميع الصعد: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، وفي كيفية تعاطي الدولة اللبنانية معها أيضاً.

سياسيّاً، بايعت المخيّمات عموماً الزعيم الفلسطيني الحج أمين الحسيني الذي مثلّ بالنسبة إليهم «الحلم في استرجاع فلسطين». لكن الوضع تغيّر مع انتشار أفكار «البعث» و «حركة القوميين العرب». وشكّل ظهور المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة في العام 1965، المتمثلة بـ «حركة فتح»، عاملاً أساسياً جرّ المخيّمات إلى العمل الفدائي وبالتالي إلى انتقال الولاء السياسي إلى أحزاب اليسار.

على مستوى تعاطي الدولة اللبنانية مع المخيّمات، أشار الباحث في قضايا اللاجئين الفلسطينيين جابر سليمان إلى أنها مرّت بمراحل عدّة. إذ اتسمت المرحلة الممتدة حتى العام 1958 بترحيب رسمي بالفلسطينيين، لا سيّما على مستوى حق العمل. فقد نشأت المخيّمات في محيط المدن الكبرى وشكّلت قوة اقتصادية ووفرت يداً عاملة رخيصة للاقتصاد المحلي. أما مرحلة العهد الشهابي التي انتهت بتوقيع اتفاق القاهرة في العام 1969، فاتسمت بحصار أمني شديد وتضييق على حريّات الفلسطينيين. ولفت سليمان إلى أن «الاتفاق» هدف إلى تنظيم العمل الفدائي، لكن المادة الأولى فيه نصّت على الحقوق المدنيّة للفلسطينيين. وأضاف أن «منظمة التحرير لم تلتزم به لناحية التجاوزات العسكرية، ولم تعمل على تفعيل نصّه القانوني الذي كان سيمنح الفلسطينيين بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مفضّلة السلاح على المرسوم الاشتراعي المتعلّق بالحقوق». بدوره اعتبر الباحث صقر أبو فخر أنّ «الدولة اللبنانية تعاطت منذ البداية مع المخيّمات كبؤر أمنية وليس كمشكلة سياسية واجتماعية خلفتها النكبة. إذ كان ممنوعاً على الفلسطينيين حتى الاستماع إلى إذاعة «صوت العرب» أو حتى بناء حائط يتكئون إليه. ولم يتغير الوضع إلا عندما انتفضت المخيمات وطردت القوى الأمنية المتمثلة بالمكتب الثاني، حيث ترافق ذلك مع احتضان اليسار اللبناني للعمل الفدائي الفلسطيني.

الفلسطينيون في العراء

ترافق تواجد فصائل «منظمة التحرير» العسكري مع إنشاء العديد من المؤسّسات الكبيرة أنعشت اقتصاد المخيمات وشغّلت اليد العاملة الفلسطينية، واللبنانية أيضا. كما لعبت البورجوازية الفلسطينية والتحويلات المالية للمهاجرين الفلسطينيين دوراً في بناء مؤسسات ذات طابع اجتماعي لدعم سكّان المخيمات. وأشار سليمان إلى أن «المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتربوية لمنظمة التحرير كانت تستوعب نحو 60 في المئة من اليد العاملة الفلسطينية عدا اللبنانية، وشكّلت شبكة أمان اجتماعي للفلسطينيين». بدوره اعتبر أبو فخر أن «التحسن والازدهار الذي سبق انفجار الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975 لم يعطِ ثماره الحقيقية في المجتمع الفلسطيني واللبناني، إذ أدت الحرب إلى تدمير كل إمكاناته».

لكن مرحلة ما بعد العام 1982 التي افتُتحت بخروج فصائل منظمة التحرير من بيروت، أدت إلى انهيار المؤسسات التشغيلية الفلسطينية. واعتبر سليمان أن «طرد فصائل المنظمة جعل الفلسطينيين يبدون كما لو أنّهم باتوا أيتاماً». أما أبو فخر فرأى أن «تلك المرحلة التي افتتحت بمجزرة صبرا وشاتيلا جعلت الفلسطينيين يشعرون بأنهم أصبحوا في العراء. فبخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت باتت المخيّمات مكشوفة أمنياً ولم يجد أهلها أحداً إلى جانبهم يحميهم من الاعتداءات الانتقامية. وترافق هذا الحدث مع الانهيار التدريجي للمؤسسات الاقتصادية التي كانت تؤوي معظم الفلسطينيين».

التحوّلات الدينية

بحسب أبو فخر، اتّسمت مرحلة الستينيّات والسبعينيّات بالمدّ اليساري وتحرّر المرأة، إذ إن المظاهر الدينية داخل المخيمات كانت تقتصر على بعض الأمور التقليدية، حتى أن غطاء الرأس عند النساء كان وجوده نادراً جداً. لكن بعد الثورة الإيرانية بدأ الخطاب الديني يتسلّل إلى داخل المخيمات. ومع خروج فصائل المقاومة من بيروت، وبدء انهيار المؤسسات الاقتصادية، عملت المجموعات الإسلامية مثل «الأحباش» و «الإخوان المسلمين» على سد الفراغ، وذلك بواسطة الجمعيات الخيرية والأهلية.

تحسن وضع فصائل منظمة التحرير بعد العام 1984 حيث فُتحت الطريق من بيروت إلى دمشق، بعد خروج الجيش اللبناني من العاصمة، وانتقال ولاء بعض الفصائل إلى دمشق. كما أعاد ياسر عرفات تواصله مع الفلسطينيين في لبنان بعد خروجه من بيروت. لكن هذا لم يجنّب الخارطة السياسية للمخيمات التغيّرات اللاحقة. فبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام 1987 ظهرت قوى شابة ومقاتلة مثل «الجهاد الإسلامي» و «حركة حماس»، امتد انتشارها إلى مخيمات العاصمة، قاضمة بذلك من شعبية فصائل منظمات التحرير. ففيما اقتصر وجودها قبل مرحلة التأسيس على الجوامع والعمل الخيري، ها هو ينتقل بعد الانتفاضة ليصبح تواجداً عسكرياً مسلحاً.

تحت نيران الحرب

أتت الحرب الأهلية على مخيم تل الزعتر كلياً في العام 1976. فتوزع بعض سكانه على بقية مخيمات العاصمة فيما هاجر البعض الآخر إلى الخارج. كذلك أدت تداعيات الاجتياح الإسرائيلي إلى دمار كبير في بعض مخيمات العاصمة، ثم أتت حرب المخيمات لتكمل المهمة. يعتقد أبو فخر أنّ «أحد أسباب اندلاع حرب المخيمات العام 1985 هي منع أبو عمار بسط سلطته عليها مجدداً». أمتدت الحرب إلى العام 1987، فدّمر خلالها مخيم الداعوق وطرد سكانه وتوزعوا على بقية المخيمات، وانتهى وجوده عن الخريطة إسوة بمخيم تل الزعتر. بدوره تعرض مخيم شاتيلا إلى دمار شبه كامل أدى إلى هجرة أبنائه أو السكن في المناطق المحاذية له، حتى أن الفلسطينيين باتوا يشكلون اليوم جزءاً بسيطاً منه. وهذا ينطبق بشكل أقل على مخيم برج البراجنة الذي تعرض لدمار جزئي. أما مخيم الضبية فقد تعرض للتدمير مرات عدة خلال الحرب الأهلية، استقر بعدها على وجود قلّة قليلة من الفلسطينيين، حيث بات معظم سكّانه اليوم من اللبنانيين الذي أتوا من الأطراف.

يختلف الوضع بالنسبة إلى مخيم مار الياس الذي تمتع بوضع خاص أثناء حرب المخيمات، إذ جرى نوع من التفاهم بين القوى السياسية اللبنانية والفلسطينية على تجنبه كونه يضم المكاتب الرئيسة لجميع الفصائل. لكن هذا المخيم تعرض لتغيّر ديموغرافي كبير، حيث كان يستقبل الفلسطينيين المسيحيين الذين هاجروا ولم يبق منهم اليوم سوى بعض العائلات المسيحية فقط.

بعد حرب المخيمات

تغيّرت خريطة القوى السياسية جذرياً بعد حرب المخيمات من ناحية دخول القوى الإسلامية إلى المشهد السياسي، واندثار العديد من الفصائل التي كان لها وزن مهم في الساحة الفلسطينية. فـ «قوات الصاعقة» الموالية لدمشق، التي كانت تعتبر ثالث أكبر تنظيم فلسطيني في لبنان من حيث القوى والنشاط، بات وجودها شبه تمثيلي. أما «جبهة التحرير العربية» فقد انتهت بشكل نهائي مع رحيل صدام حسين، ذلك عدا عن أنها انشقت إلى تنظيمين في السابق. وذلك ينطبق على «جبهة النضال الشعبي الفلسطيني»، الممولة من قبل «الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة»، التي بات حضورها شبه تمثيلي أيضاً.

تضم هذه المخيمات اليوم العديد من الفصائل الفلسطينية التي كانت تملك في السابق رصيداً شعبياً وحضوراً مثل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» أو «الجبهة الديموقراطية». لكن هاتين «الجبهتين» لا تملكان تنظيماً سياسياً فاعلاً، إذ يكاد يقتصر حضورهما على بعض القيادات والمناضلين، كما أوضح أبو فخر. وأضاف بأن «حركة فتح» ما زالت «أكبر تنظيم في جميع مخيمات لبنان لكن فاعليتها لا تتناسب وحجمها وقوتها. إذ تبدو «فتح» عاجزة عن التعامل مع بعض القوى الأصولية والمتطرفة، الخارجة على القانون اللبناني، كما هي الحال في مخيم عين الحلوة».

بين فكّي سلطتين

بعد العام 1993 انتقلت المؤسسات الفلسطينيّة إلى الداخل الفلسطيني وأُهمل فلسطينيو الشتات. علما أن «الأونروا» قدّرت عدد فلسطينيي المخيمات الذين لا يجدون وظائف بنحو 57 في المئة من اليد العاملة. وتلبي «الأونروا» جزءا من حاجات الفقراء الصحية والتعليمية. كما يقوم قطاع المؤسسات الأهلية بتحمل جزء كبير من العبء عن كاهل العائلات الفلسطينية، مساهماً بسد جزء من الفجوة التي تركتها «منظمة التحرير». أما مؤسسات فصائل «منظمة التحرير» و «حماس» و «الجهاد الإسلامي» الحالية، فتشكّل نوعاً من شبكة أمان اجتماعي، لكن تقديماتها غير كافية وتشبه التسوّل، كما أكّد سليمان. ليس هذا فحسب بل إن انتفاء وجود مرجعية اقتصادية واجتماعية موحدة وشاملة، تشبه قطاع الدولة، لا يؤدي إلا إلى مزيد من تبديد ثروات الفلسطينيين.

على المستوى القانوني صدر العام 2001، قانون تملّك الأجانب في لبنان. علما أن حيثياته استهدفت الفلسطينيين بشكل أساسي وحرمتهم من امتلاك الشقق السكنية. وهنا لفت سليمان إلى أن تداعيات هذا القانون كانت كارثية، لا سيما أن المخيمات محدودة المساحة، وبات الفلسطينيون «يحشرون داخلها حشرا». وبالتالي أدى القانون إلى اكتظاظ سكاني كبير لا سيما في مخيمات صغيرة مثل شاتيلا. وليس صدفة أن هذا المخيم يعاني من ظروف صحية واجتماعية خطيرة وتلوث بيئي كبير، وفق ما ذكرت «الأونروا».

بدأت العلاقات الفلسطينية اللبنانية بالتحسن بدءا من العام 2005 حيث أدى خروج الجيش السوري من لبنان إلى إعادة فتح مكتب «منظمة التحرير» في بيروت، وتمّ تشكيل «لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني». لكن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين لم يتغير. ما تغير بحسب سليمان المناخ السياسي فقط، بمعنى وجود نظرة أكثر إيجابية تجاه الفلسطينيين قلّلت من مخاوف التوطين. إذ شعرت الدولة اللبنانية أن إهمال المخيمات وتهميشها لا يصبّ في مصلحتها، لا سيما أن انتشار بؤر الفقر لا تؤدي إلا إلى المزيد من المشاكل الاجتماعية، وبالتالي إلى التطرف السياسي. وأضاف سليمان بأن خطوة العام 2010 الإيجابية، التي أفضت إلى صدور القانون 129 حول حق العمل والقانون 128 المتعلق بالضمان الاجتماعي، بقيت يتيمة، لأنها لم تُكتمل بوضع مراسيم تطبيقية تدخل هذه القوانين حيّز التنفيذ.

المصدر: السفير