القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الجمعة 29 تشرين الثاني 2024

مذكرة جلب للاستماع إلى محاضرة

مذكرة جلب للاستماع إلى محاضرة

بقلم: أحمد الحاج علي

دخل المحاضر القاعة، سلّم على الحضور، مقطّب الحاجبين ليشي بالجدّية وعظم الحديث الذي جاء من أجله، وأهميّة المحاضرة التي لا يمكن أن تشبهها أية محاضرة أخرى. شرع بالكلام: المرجعية الفلسطينية في لبنان، الوضع المعيشي، حصار المخيمات ومنع إدخال موادّ الإعمار، ماذا بعد؟ لا جديد.. وصَف ولم يحلّل، طرح المشاكل، وتغاضى عن تقديم الحلول.

تحدّث بلغة ثورية وهو لا يشبه الثوريين في البساطة والسلوك والعمل. يذكّرك بقصة المفكر المصري جلال أحمد أمين مع زميله الأستاذ الجامعي الذي كان يلقي مادّة «الاشتراكية العربية» على تلاميذه، همّا بالخروج بسيارة الأستاذ الجامعي التي كانت آخر طراز، فضرب طالب على السيارة صائحاً: يا دكتور هذه العربية، فأين الاشتراكية؟ كدت أظن أن محاضرنا هو زميل المفكر جلال أمين لولا أن القصة حدثت في أواخر الخمسينيات، وليس من الممكن أن يكون محاضرنا تعرّض للتحنيط في مصر منذ ذلك الحين مع أن أفكاره قد تكون.

أجمل ما في تلك المحاضرة أنك لا تخشى أن تضيع منك أية فكرة يلقيها المحاضر، بل إن أذنيك لو سقطتا أمامك فلن تشعر وقتها بأية خسارة. لتكسر الملل تراقب الوجوه الحاضرة، ليس بينها عدد يُذكر من الشباب، إنهم –أي الشباب- في مقهى إنترنت قريب، يعرضون مشاكلهم وطرائف عبر مواقع التواصل الاجتماعي. تنبش في تاريخ مخيم برج البراجنة، فتذكر يوم كان يجتمع الشباب من حركة القوميين العرب والحزب السوري القومي الاجتماعي في بيت عصمت أبي عيسى ومحمد راغب فينافح الأول عن القوميين العرب والثاني عن القوميين السوريين، كانت مناقشات دورية وحامية فكرياً فقط.

تذكرت أيضاً يوم كنت في العاشرة من عمري، يومها ساقني سوْقاً أكبر إخوتي للاستماع إلى محاضرة كأنه يسوقني إلى التجنيد الإجباري. وصلنا قاعة المحاضرة. الحضور كلهم من الشباب، لم أفهم شيئاً من المحاضرة، لكن ما أغاظني حقاً الشعر الطويل للحاضرين، الذي كان آخر تقليعة في ذلك الزمان. لقد كنتُ طالباً في مدرسة اليرموك، أو العكي نسبة إلى مديرها، وكان تطبيق تقاليد المدرسة واجباً تحت أي ظرف، وإن تخلي الساموراي عن بعض تقاليدهم أثناء تحوّل اليابان إلى دولة حديثة كان أسهل من تخلي المرحوم فايز العكي عن تقليد من تقاليد مدرسته، وأحد أهم التقاليد يقضي بأن لا يتعدّى طول الشعرة 1 سم. ويكفي أن يسألك الحلاق إن كنت من مدرسة العكي وتردّ بالإيجاب حتى يبدأ قص الشعر ملتفتاً يميناً شمالاً، فلا أهمية للتقليعة، المهم الشعر القصير. أما اليوم فإن معظم الحضور هم ممن غزا الصلع رؤوسهم، ويا ليتهم كانوا وقت كنت طالباً، على الأقل لم أشعر بما شعرتُ من غيظ.

شرود الذهن لم يقطعه سوى صراخ مفاجئ للمحاضر: "أعتقد” والكلمات المستخدمة هي في معرض تحليل، أي تتطلب هدوءً، التفتُّ فإذا مصوّر الفوتوغراف يهم بالتقاط صورة، ففهمت سبب الصراخ لضرورات إظهار المحاضر بمظهر المتحدّي. عُدت إلى شرودي والملل يفتك بصبري، فأتصبّر، لكن نفسي توبّخني "نأسف لقد نفد رصيدكم.. من الصبر”. يطلق المحاضر طرفة، أو هكذا ظنها، يضحك الحاضرون إما مجاملة أو أن عدوى الضحك قد أصابتهم، لكني أضحك محاولاً كسر رتابة الاكتئاب في نفسي.

يختم المحاضر، أفرح، لكن يقف أحدهم سائلاً، وربما مجاملاً، وكأن دوره ينحسر في قطع الخيط الرفيع بين الملل واليأس، ينظر المحاضر إلى الساعة للدلالة على أن وقته الثمين الذي أنفقه على "الجماهير الكادحة" أخذ ينفد.

تنتهي المحاضرة بسلام، كنت أول المغادرين، خرجت أدندن بأغنية للشيخ إمام نبشتها من ماضٍ بعيد حاضر: «حالتنا ما تسرّش إنسان، وحالنا يصعب عالغلبان، لكن يا خلق علينا لسان، لو جريناه ع الصلب يسيل».

المصدر: موقع مخيم برج البراجنة