مزاعم عن فلسطين
حسام شاكر
لعلّ أسوأ ما
في النكبة سعيها للهيمنة على الوعي وتزييف الحقائق المتعلقة بفلسطين وشعبها. فمنذ
قرابة سبعة عقود تواصل الدعاية الإسرائيلية نشاطها في اجترار المزاعم ذاتها بشأن
الشعب الفلسطيني ونكبته، دون أن يحدّها ضابط في تسويغ انفلاتها من المنطق.
قيل في المزاعم
إن الفلسطينيين باعوا أرضهم، وغادروا البلاد طوعا، وإن سبعة جيوش عربية أعلنت حربا
على الدولة اليهودية الناشئة وخسرتها، وليس اللجوء الفلسطيني سوى نتيجة منطقية
لذلك.
وقيل أيضا إن
كان للعرب إحدى وعشرين دولة واسعة المساحة فبوسعهم العيش فيها، فإن لليهود دولة
وحيدة في رقعة ضيقة، فإلى أين يذهبون؟". ثمّ إنه "الحقّ التاريخي لليهود
في أرض الميعاد، الذي يمنحهم امتياز العودة إليها.
تهاوت
الادعاءات ولم تصمد في مواجهة التمحيص العلمي والبحث التاريخي، لكن دعاية الاحتلال
تعيد إنتاج مقولاتها بصيغ شتى في زمن الفضاءات المفتوحة والشبكات الاجتماعية،
مستندة إلى مزاعم وحجج مخصصة للمتنازلين عن امتياز فتح العيون وتشغيل العقول.
فرية بيع الأرض
انشغلت جمهرة
الباحثين بحشد الردود العلمية الموثقة التي تدحض فرية بيع الفلسطينيين أراضيهم
للصهاينة، وتعاقبت الدراسات التي ترصد النسبة الضئيلة التي مثلتها الأراضي المبيعة
من إجمالي مساحة فلسطين، واقفة على هوية الباعة من الأسر الإقطاعية وكثير منها لم
تكن فلسطينية.
لكن الانشغال
بالرد العلمي على فرية دعائية كهذه حصر مواجهة هذه المقولة في خانة التوضيح
والدفاع تقريبا. فسبيل المبادرة إلى اقتلاع الذريعة من جذورها هو المنطق لا
الإحصاءات، فهل يحق للفلسطيني أن يعلن دولة مستقلّة على رقعة يشتريها على مرمى حجر
من هيئة الأمم مثلا؟!
واضح أن منطق
الدعاية الصهيونية بخصوص فرية بيع الأرض، يُطلِق العنان للخيالات الخصبة كي تتخيّل
جزرا يونانية معروضة للبيع وقد استحالت أرخبيلَ الحالمين بأوطانٍ قوميّة ودولٍ ذات
سيادة، وميثاقها أرصدةٌ سخيّة لا أكثر.
ولعلّ التناقض
الجذري في الادعاء الصهيوني ببيع الأرض، أنه يفتح المجال لفلسطينيي الأراضي
المحتلة سنة 1948، لإعلان أقاليم مستقلّة ذات سيادة على ما تبقى بحوزتهم من أراضٍ
يملكونها مباشرة في العمق الفلسطيني المحتلّ.
فجوهر الأمر لا
يتعلق في الحقيقة بمن باع ومَن لم يفعل، بل بأساس أنّ من يبيع أرضا لا يمنح
المشتري السيادة السياسية عليها. بهذا تكون قصّة بيع الأرض قد تهاوت بضربة واحدة،
حتى دون استحضار الكشوف الموثقة والبيانات العددية المخصّصة للمجتمع العلمي، على
أهميتها.
المغادرة
الطوعية
يطيب لدعاية
الاحتلال أن توقِع على الفلسطيني استثناءات لا تسري على أحد سواه، ومن ذلك اعتبار
فرار السكان في زمن الحرب إلى ملجأ مؤقت، إعلانا بالتخلي المزعوم عن أراضيهم
وديارهم.
لا مجال في هذا
المقام لسرد ملابسات اللجوء الفلسطيني إبان النكبة، والحرب النفسية المُعززة
بالمجازر وممارسات الترهيب المنهجية التي اتبعتها القيادة الإسرائيلية آنذاك لدفع
سكان المدن والقرى العزّل إلى الفرار. لكنّ المؤكد أنّ جموع اللاجئين لم تذهب
بعيدا، فهي لم تغادر فلسطين أو المناطق المحاذية لها مباشرة.
فقد تركّز معظم
اللاجئين في بقع لا تتعدّى ساعة انتقال برية عن مناطقهم الأصلية، وكان خروجا مؤقتا
إلى أقرب نقطة آمنة أقيمت فيها مخيمات المتطلعين إلى عودة وشيكة.
لقد حسبت الأسر
المهجرة، بنسائها وأطفالها وشيوخها ومعيليها العزل، أن بوسعها العودة بعد أمد
وجيز، ولم يكن الخروج بقصد ترك البلاد وتسليم مفاتيحها للمحتل.
إنه السلوك
البشري الاعتيادي في زمن المعركة، الذي تنادي بضمانه وحمايته المواثيق الدولية ذات
الصلة، وهو سلوك لم يعد الشعب الفلسطيني مستعدا للإقدام عليه مجددا مهما بلغ
العدوان مداه، لأن عظة النكبة المريرة تنتصب في وعيه الجمعي.
لكن دعاية
الاحتلال إذ تبطل مقولة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، فإنها تسرف في استدعاء
فكرة هذا الحق مع يهود العالم حصرا، الذين تدعي أن فصول الماضي الغابر قد شردتهم
عن فلسطين أيضا. بيد أن اجتزاء فكرة الحق، وتنزيل الاستثناء على فريق دون آخر،
يبطلان القاعدة التي تستند إليها حجج الاحتلال ومزاعمه.
لا يتوقف الأمر
عند هذا الحد، فإن تم التسليم جدلا بالفرية، والقول إن الفلسطينيين غادروا البلاد
طوْعا، فإن على الاحتلال نفسه أن يقبل بعودتهم إلى بلادهم طوْعا أيضا. فلا يستوي
الاحتجاج بالفعل الطوْعي المزعوم في حال المغادرة، وتجاهله في حال العودة.
لقد ذهبت
الدعاية الإسرائيلية بعيدا في مزاعمها، لكنها تعجز عن تورية الحقيقة الماثلة
للعيان والموثّقة بالسّبْر العلمي التاريخي، بأن الشعب الفلسطيني واجه محاولة
اقتلاع منهجية رهيبة، وإن أكبر برهان متجسد على هذا الاقتلاع هو مواصلة حرمان جموع
اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى أرضهم وديارهم التي يقع بعضها على مرمى
أبصارهم.
حق العودة
اليهودي
تتأسس ذرائع
الاحتلال على القول بالحق التاريخي لليهود في هذه الأرض، في تزييف صارخ لتاريخ
فلسطين. ولا تكمن المعضلة هنا في هشاشة هذا الزعم، بل وفي تنزيل الاستثناء على
فلسطين دون غيرها، وعلى اليهود دون غيرهم في تاريخ هذه البلاد.
وإن راقت مقولة
الحق التاريخي لبعضهم في الولايات المتحدة مثلا، فإن عليهم ألا يذهبوا بعيدا
وليباشروا تنزيلها بواقعهم، ومنح ولاياتهم أو بعضها لسادة البلاد قبل عهد
كولومبوس. أما استثناء فلسطين من جغرافيا العالم وتاريخه فلا يستقيم بحال، ولعل
تفعيل مقولات الحق التاريخي لن يبقي حجرا على حجر بالنظام الدولي، فمؤكد أنها وصفة
للدمار الشامل كانت فلسطين مختبرا عمليا له.
أما اختصاص
جماعة بشرية بعينها بفكرة الحق وتسخير تاريخ فلسطين الموغل في القدم لصالح مقطع
تاريخي يدّعي القادمون من أرجاء العالم أنهم يتصلون به، فإنه مروق من الإنصاف
والمنطق قبل أي شيء.
لم تتوقف ذريعة
الحق التاريخي عند حدود الدعاية الصهيونية، بل كرسته دولة الاحتلال في "قانون
العودة اليهودي" لسنة 1950 الذي يحيل فلسطين وطنا للمستجلَبين من أنحاء
العالم في دقائق معدودة.
وغاية الأمر هو
طمس حق الفلسطيني في العودة إلى أرضه ودياره، وجعله امتيازا حصريا لمن يرفع لافتة
الانتماء اليهودي، ولو حامت الشكوك حول يهوديته أحيانا. ولأن المجتمع الدولي يقف
شاهدا على هذه المعادلة المفروضة على فلسطين وشعبها، فمعنى ذلك أن تفعيل حق العودة
الفلسطيني لا يتيحه منطق الإجحاف، عبر القانون الدولي أو شعارات حقوق الإنسان
وأحقية الشعوب بأوطانها.
وقد يستنتج
بعضهم أن مفتاح العودة الفلسطيني بالمنظور السائد دوليا هو "تهويد
الفلسطينيين"، وقد تحسب المشرعون الإسرائيليون لذلك عندما ضمنوا "قانون
العودة" بنودا ترفض من يشكلون خطرا على دولتهم.
والواقع أن
بدعة التهود إياها سبق إليها حالمون بالهجرة من الدول الاشتراكية السابقة، فوجدوا
أن أقصر السبل هو الاتصال بمكتب "الوكالة اليهودية" والإفصاح عن
"اكتشاف" جذورهم، وبهذه الحيلة اصطفّت طوابير متعددة اللغات تضم
الباحثين عن اللبن والعسل في مطارات فلسطين، التي يتناثر شعبها في المخيمات
والمنافي.
إحدى وعشرون
دولة
لو تم التسليم
جدلا بالذريعة القائلة إنّ للعرب إحدى وعشرين دولة يمكنهم العيش فيها، فإن دعاية
الاحتلال تكذب بحديثها عن دولة واحدة مفتوحة لجمهورها اليهودي. غني عن القول إن
الفلسطيني لا يملك دولة بحيالها، وها هو يقاسي الهوان بعد 66 سنة من النكبة في
العثور على مأوى يلوذ به في نزوحه المتجدد من سوريا مثلا.
المسكوت عنه في
هذه الرواية أن الإسرائيلي تسنده دول عظمى، ويجوز الافتراض بأن خمسين ولاية
أميركية تفتح له أبوابها، وهي أوسع من العالم العربي بأسره.
ولو سلمنا
بالمعيار العددي لصح القول إن الولايات المتحدة هي "دولة اليهود" التي
حلم بها هرتزل، إذ تستوعب منهم اليوم أكثر ممن تم توطينهم في فلسطين المحتلة بفعل
حملات الاجتذاب المحمومة عبر قرن ونيف من الزمان. ثم إن ربع الإسرائيليين أو ثلثهم
يعيشون خارج فلسطين، ويحرصون على حمل جنسيات مزدوجة ارتباطا بأوطان متفرِّقة.
أما التلاعبات
اللفظية بالحديث عن "العرب"، فتمعِن في طمس شعب فلسطين، ونزع خصوصية
انتمائه إلى أرضه ودياره وثقافته المحلية، تكريسا لمنطق إلغاء الفلسطيني وإنكار
وجوده وتزييف هوية وطنه.
والثابت أن
خطاب الاحتلال لا يجرؤ حتى اليوم على استدعاء مفردة "الشعب الفلسطيني"،
بل إن مرحلة أوسلو لم تجاوِز كلمة "الفلسطينيين" في أفضل حالاتها، حتى
عندما كانت الرسمية الفلسطينية تتودد إلى جمهور الاحتلال بصفة "الشعب
الإسرائيلي".
قصة الجيوش
السبعة
تبقى أسطورة
"الجيوش السبعة" التي خسرت حرب 1948، وقد استقرت في الوعي الجمعي دون أن
ينالها التفكيك الذي تستحق.
والواقع أن ما
تمّ تصويرها جيوشا جرارة لم تكن عربية صرفة، بل خرجت من رحم العهد الاستعماري ولم
تكن قيادة بعضها من العرب أساسا. ولعل ذلك يفسر الإدارة العبثية للحرب من الجانب
"العربي" والوقائع المريبة في الميدان.
ولا ينفي ذلك
إرادة القتال لدى الجنود العرب وتفانيهم، لأن المعضلة كانت مع القيادة والسيطرة،
ومن ورائها القرار السياسي غير الجاد في عواصم الإقليم.
ما يجدر التنبه
إليه أنها لم تكن جيوشا، بل قوات مستلّة من جيوش. فقد دفعت جيوش عربية حديثة
التشكل في معظمها، بطوابير محددة منها إلى فلسطين، فمضت مسلحة بالشعارات وكأنها في
نزهة، وأزاحت المقاومين من المشهد.
ورغم هالة
التضخيم الإعلامي التي أحيط بهذا هذا الإسناد المفترض، ظل مجموع المنخرطين في هذه
القوات العربية جميعا أدنى من القوات الصهيونية عددا وعدة. وقد رسم ذلك لوحة لقوات
عربية مبعثرة تفتقر إلى الأهداف والخطط المشتركة الفعالة، تقف بارتباك شديد إزاء
جيش إسرائيلي عريض وموحد يمتلئ تصميما.
ثمّ إن تصوير
القوات الصهيونية ابتداء بالضعف والهشاشة، يخفي حقيقة تعزيزها بإمكانات هائلة
وامتيازات وفيرة نسبيا. ولا شك أن الامتياز الأكبر الذي حازته أن العهد البريطاني
أتاح لها النضوج وتواطؤا مع تشكيلها وتطويرها وتسليحها، وخلف لها من القدرات ما
أهلها لاستلام مفاتيح البلاد وتشريد الشعب دون عناء يذكر، في زمن كانت سلطة
الانتداب البريطاني توقِع فيه على الفلسطيني العقوبات المغلظة لمجرد حيازته قطعة
سلاح صدئة.
ورغم الخطاب
الذي يمجد بطولات الثوار الفلسطينيين والمتطوعين العرب إبان النكبة، فإنهم ظلوا
وقد نفدت ذخائرهم معزولين عن الإسناد، ومقطوعين عن أي دعم يكافئ قدرات الجيش
الإسرائيلي المتزايدة، فكان سقوط فلسطين مسألة وقت لم يشفع له استبسال بلا مقومات.
أي أن شروط المعادلة أفضت إلى انتصار عسكري للقوات الصهيونية التي خضعت لقيادة
مركزية. وما رسخ معادلة التمكين العسكري للاحتلال أن الإسناد الغربي مضى في تحويل
فلسطين المحتلة إلى قاعدة حربية تأتي في مصاف أبرز القوى العسكرية عالميا.
لقد جاءت حكاية
"الجيوش السبعة" ضمن ما حشدته الدعاية الصهيونية من ذرائع، بدأت بأكذوبة
"الحقّ التاريخي"، وتواصلت مع مقولات مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا
أرض"، وتجسدت مع حكاية "تزهير الصحاري وتجفيف المستنقعات" التي
تستحضر الداروينية الاجتماعية، علاوة على مزاعم "طهارة السلاح
الصهيوني".
وفي غمرة هذه
الذرائع وغيرها لا تغيب الحقوق والشرائع وحسب، بل يتوارى العقل خجلا ويتهاوى
المنطق أيضا. بيد أن هذا الخطاب الدعائي المتهافت يكفيه مفتاح تحمله يد فلسطينية
صغيرة في عقد النكبة السابع، ليقتلع رواية الاحتلال من جذورها، ويؤسِّس للعودة في
حتميتها التاريخية.
الجزيرة.نت، الدوحة، 24/5/2014