مصر وفلسطين .. الآصرة والإسفين
بقلم: حسام شاكر
لا يكون التقارب أحياناً سوى إيذان بدقّ
الأسافين. فمن يحسب أنّ الممسكين بخيوط الاستراتيجيا سيدَعون أرض الكنانة تستقلّ بمسارها،
فتفتح ذراعيها لفلسطين وقضيّتها؛ هو واهمٌ حقاً.
ما تشهده الساحة المصرية في الآونة الأخيرة
من استثارة مفتعلة بشأن فلسطين وشعبها، وغزة ومقاومتها؛ ليس أكثر من قصّة محبوكة، سبق
إخراجها بعناوين شتى في منعطفات خلت عبر أربعين سنة. إنّها متوالية تبرهن على تشابك
الأيدي التي تتلاعب بالعلاقة المصيرية بين إقليميْن يتقاسمان الهوية والجغرافيا والتاريخ
والمآلات. فبين مصر وفلسطين آصرة وُثقى، أوليس كلّ منهما بوّابة للآخر، ورواية لتاريخه،
وإشارة لحاضره ومستقبله؟!.
الجديد في هذه المتوالية أنّها تسجِّل حضورها
بعد أن فاض النيل غضباً لمّا حسبه بعضهم دائم الهدوء. فما إن ثار الوادي ونفض عن كاهله
الغبار، وأعادت مصر اكتشاف ذاتها وأدركت ما فاتها من محطّات؛ حتى استنفر خصومها إمكاناتهم
وحشدوا أدواتهم. كان من المُنتظر أن لا يتأخّر العابثون، إذ عليهم أن يُفسدوا على
"أمِّ الدنيا" يقظتها، وأن يعكِّروا صفو ريادتها للأمّة، ولن يكون الانسجام
المصري مع فلسطين إلاّ هدفاً من مرامي التلاعب المتوقّع، وهو ما كان.
ليس دقّ الأسافين مسلكاً جديداً في مسار
العلاقة المصرية ـ الفلسطينية. وفي كلِّ محطّة عبر عقود أربعة تمّ افتعال وقائع مثيرة
وتفاصيل دامية في الميدان، وتوالت الانعكاسات والمواقف في السياسة؛ مع متلازمات الاستثارة
والتحريض في الإعلام. إنّها مقوِّمات الحملات التي ما إن تخمد سنوات قليلة حتى تثور
بلافتات متجدِّدة، فراكمت ثقافة عمياء من التشوّش وسوء الفهم. يحدث هذا الاستهداف لعرى
الأخوّة منذ أواسط السبعينيات، تزامناً مع لحظة التصالح مع العدوّ، ويعيد المشهد إنتاج
نفسه مع تبدّلات الأشواط واللاعبين.
في خلفيات المشهد حقائق جوهرية. فاستئناف
الحملات التي توغر الصدور، إنّما يستهدف غضّ الأبصار عن الاحتلال ومشروعه وتهديداته،
وصرف الأنظار عن المكانة الحضارية التي تليق بمصر وشعبها. تلك هي المتلازمة الحتمية
التي تفضح هذا النهج وتمنح انطباعات كافية عمّن يقومون على تصميم تفاعلاته وتوجيه مُخرَجاتِه.
في الحملة الجديدة التي تستهدف المساس بالآصرة
المصرية ـ الفلسطينية، توكيدٌ جديد بأنّ نهوض أقطار الأمّة مرتهن أيضاً بإدراك مخاطر
القاعدة الحربية القائمة في فلسطين، وكم أنّ الصراع معها محكوم بمنطق الوجود لا حسابات
الحدود. ولا يتوقّف دقّ الأسافين، بلا شكّ، على ذلك الشريط الحدودي القصير الذي تخالجه
الأنفاق من جانبيْه، بل يمتدّ إلى أعماق المشهد الداخلي، إلى أحشاء المجتمعات العربية،
مستهدفاً المساس بأقطار الأمّة عبر إشعال الفتائل في بقع الزيت المندلق في المدن والعشوائيات
وخطوط التماس الاجتماعية والاقتصادية.
في الحملة الجديدة ما يبرهن أنّ مَن يتوارَوْن
خلف وسائط الإعلام، بعضهم تحديداً، ينبثقون عن حسابات لا تتطابق مع مصالح البلاد والعباد،
وأنّهم ممعنون في لعبة الهيمنة على الوعي، في زمن آذن ابتداءً بالانعتاق من أغلال التضليل.
بات واضحاً من صميم الممارسة؛ أنّ تدَحرُج الرؤوس وتطايُر الألقاب في هبّة شعبية لا
يعني اكتمال المهمّة التي ثارت الجمهرة لأجلها. فالغول الذي يطرده الأهالي من الباب
يعود إليهم من حيث لا يحتسبون؛ وربّما عبر نوافذ مرئية يتسمّرون أمامها كلّ مساء، أو
بين سطور مشفوعة بعناوين الإثارة.
في الحملة الجديدة التي تستهدف تمزيق الآصرة
الحتمية بين الأمّة وقضّيتها المحورية، ما يفرض على أصحاب العقول وحاملي الضمائر أن
يدركوا مهمّتهم في إنارة الظلمات، وأن يقوموا بمسؤوليتّهم في كشف الملابسات، ووضع الأمّة
بشعوبها وأجيالها أمام الحقائق والأبعاد والأدوار المنتظرة.
إنّها ليست حملة ضد فلسطين، أو غزة؛ بل
هي حملة ضد مصر أساساً .. بتاريخها وحاضرها ومستقبلها.
المصدر: مجلة العودة، العدد الـ67