معارك الفلسطينيين الحزينة
بقلم: زياد خداش
أنا أمام حاجز قلنديا العسكري، الساعة السادسة
صباحاً، ذاهب إلى القدس لاستكمال إجراءات مشروعي الشخصي المجنون: استنطاق العتاقة.
اليوم الجمعة، والخمسينيون صار في وسعهم زيارة القدس من دون تصاريح. وهكذا، تدفق مئات
للصلاة، هناك ألفا فلسطيني يحتشدون بكثافة، بانتظار فتح باب البوابة العجيبة، (يسميها
الفلسطينيون المعّاطة لأنها تشبه ماكنة (معط) ريش الدجاج في محلات بيع الدجاج) التي
تدفعك قضبانها إلى الداخل أو الخارج، بأمر من الاحتلال الذي يجلس خلف كاميرا ترى كل
شيء.
غارق أنا وسط الحشد الكبير، واقف بشكل لا أستطيع
فيه أن أعرف أين رأسي أو قدمي أو خاصرتي أو ظهري. كلي مشتت في الكل، كما الكل مشتت
فيّ، ملامحي ضائعة في الكتلة الضخمة الرجراجة الملتصقة. لم يعد هناك حدود، أو فجوات،
الكل صار الكل، وصار مستحيلاً تحسس أعضائي، لأنها مبعثرة هنا وهناك. الجنود الإسرائيليون
لا يظهرون في مدى رؤيتنا، لا نرى سوى أطياف أشخاصٍ، يتحركون بهدوء وراء الزجاج البعيد،
بدأ الحشد يتذمر، فالإحساس صار خانقاً وغريباً، فيمكن أن تحرك يدك، مثلاً، لتهرش شعرك،
فتفاجأ بأنك تهرش شعر شخص قربك. وكان من الطبيعي جداً أن تسأل امرأة تقف خلفك مباشرة:
لو سمحت أعيدي لي خاصرتي، فتستغرب صائحة في وجهك: أعد لي قدمي، لأعيد لك خاصرتك يا
مستر. وهكذا صار الوضع لا يطاق، أطياف جنود الاحتلال ما زالت تتحرك، والمعاطة صامتة،
والحر شديد، والقدس بعيدة.
قرب المعاطة، سمعت صوتاً يصرخ: (هذول البنات اللي
واقفات وراي ومفرعات، شو رايحات يسوين على القدس؟ بدي أفهم) فترد عليه (مفرعة): (لو
سمحت يا حاج، هذا كلام مش كويس، احنا محترمات ومتربيات، والقصة مش بالحجاب). يصيح شخص
في المؤخرة: لو سمحت أبو الشباب، ابعد إيدك عن عيني. يرد أبو الشباب: يا خوي، وين أروح
في إيدي يعني، ما انت شايف كيف واقفين احنا كلنا). ـ (والله، هالنسوان سبب كل هالفوضى،
ابعدي غاد يا حرمة انتِ واياها، استحوا اشوي، الله وأكبر عليكن)، هذا صوت شيخ معمم
في الجانب الأيمن من الحشد.
ما زالت الأطياف تتحرك بهدوء خلف الزجاج، التذمر
يصل إلى مداه، والحر شرس، والقدس بعيدة.
- مين اللي بنخز فيّ بدبوس؟ تصيح امرأة. ترد أخرى: هاي شنطي يا حجة
أنا آسفة.
تزداد الصراعات الفلسطينية أمام المعاطة شراسة:
- أنا جيت قبلك يا زلمة. .. لا، أنا جيت قبلك، أنا من الأربعة هون.
فجأة، يطل جندي من النافذة، فتشرئب الأعناق الفلسطينية
النحيلة، والذي سوف يحدث، الآن، مرعب. الجندي يصيح بلغة عربية مهشمة: إبعد كلو عن باب.
فيصيح أشخاص كثيرون متضامنين، أو متماهين مع طلب الجندي: آه شفتوا، ما احنا حكنالكم
ابعدوا اشوي عن باب المعاطة. ابعدوا كلكم عن الباب.
بالمعارك بدأت تذهب إلى الأيدي دفعاً وركلاً:
يا أخي ابعد عن مرتي، ليش ملزق فيها. فيرد: مش ملزق في حدا أنا، إنت للملزق في أختي
شوف حالك، عيب عليك.
يخرج الجنود إلى الساحة، يتوزعون وراء الشبك،
ويحدقون في الحشد الفلسطيني المتقاتل، ويتبادلون الابتسامات، ُتفتح المعاطة فجأة، فيندفع
الحشد تجاهها، تصيح النساء: مشان الله، خلينا نمرق يا ازلام، يمزق صوتهن عنان السماء،
لكنه لا يهز قضبان المعاطة المعدنية الثقيلة، (تلك طريقة النساء في الدفاع عن أنفسهن،
لا تلومهن، مسكينات مسكينات) يقول بصوت خفيض شاب لي.
يدفعني موج البشر إلى المعاطة، أندس بصعوبة فيها،
وأخرج مع بعض الأشخاص، لاهثين، مشعثي الشعر. أتفقد أجزاء جسمي، فأفاجأ بيدي اليسرى
مفقودة. أعود كالمجنون إلى الحشد متجاوزاً الجنود والمعاطة والناس. اخترق جسد الحشد
المدوي، فأرى شخصاً يلوّح بيدي من بعيد، سبحت تجاهه، (وجدتها على الأرض، تعثرت بها
قدمي فانتبهتُ لها،) قال لي الرجل، شكرته، أمسكت بيدي، وعدت بها إلى حيث الساحة الأمامية،
هو الاحتلال هو الاحتلال، أصيح في الحشد، وأواصل طريقي إلى جسد العتاقة المقدس.
المصدر: العربي الجديد