القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

مفاتيـــح إضافيـــة لرحيـــل آخـــر...

مفاتيـــح إضافيـــة لرحيـــل آخـــر...

سعدى علوه

تساعد جغرافيا مخيم نهر البارد في تقدير حجم الدور الذي كان يؤديه في منطقة الشمال عموماً، وفي قلب عكار خصوصاً. كان المخيم «محسوداً»، بالمعنى «اللطيف» للكلمة، من محيطه ومن سكان المخيمات الأخرى.

تبلغ نسبة المتعلمين من أبنائه أضعاف ما تعرفه المناطق والقرى المجاورة، كما مخيمات اللجوء الأخرى المنتشرة على الأراضي اللبنانية.

ساهم يسر حال سكان البارد، الذي تحوّل إلى سوق لمحافظة عكار، وبعض جوانب طرابلس القريبة منه، إلى إقبال الأهالي على تعليم أبنائهم وإرسالهم إلى جامعات الشمال وبيروت، على الرغم من ضيق أفق فرص العمل للمتخرجين الفلسطينيين.

شيّدوا منازل جميلة، واسعة ومريحة، ورفع رب كل عائلة طوابق إضافية فوق منزله للأبناء البالغين من العائلة. أثثوا منازلهم بالجميل من الأشياء، وعاشوا لا تنقصهم سوى العودة إلى فلسطينهم.

نادراً ما كنت تجد عاملاً مياوماً من نهر البارد. من عجز عن فتح محل أو دكان أو حجز مكان له في سوق الصاغة الشهير في المخيم، اشترى زورقاً وقصد البحر المفتوح على المخيم للصيد. يحفظ الأبناء روايات الآباء عن تلك البقعة من الأرض التي كانت «بلاناً» وشيحاً قبل ان تحددها الدولة لهم كمكان لإقامة المخيم من فوقه. أحيوا المنطقة وبنوها وطوروها إلى أن أصبحت المركز الاقتصادي أو عاصمة المحافظة التجارية مع حلبا.

يشبه الحديث عن «تلك الأيام» قصص أجدادهم عن فلسطين. أضحى لفلسطينيي البارد ذاكرة خسارة إضافية، خاصة، ومفاتيح جديدة أحرقت أبوابها، غير تلك التي ورثوها عن أجدادهم لمنازلهم في فلسطين.

يقول أبو أحمد، الذي نزح عن منزله في اليوم الثاني لحرب البارد، انه عرف باب بيته من المفتاح.

يومها، وصل الرجل مع زوجته مع دفعة من الأهالي سمح لهم بتفقد منازلهم بعد فترة من انتهاء الحرب. على بعد نحو مئة متر من «حيه»، وجد أبو أحمد باباً فوق كومة من الحجارة. قال لزوجته «هذا باب مدخل البيت يا أم احمد». تأملت المرأة الستينية في الباب ثم أدارت عينيها في المكان، واتهمت زوجها بـ«الخرف»، مؤكدة أن «البيت لا يقع في هذا الحي».

أخرج أبو أحمد المفتاح من جيبه، وأداره في قفل الباب وفتحه. ومع دوران المفتاح في القفل، جلست أم أحمد على الأرض، وشرعت في النحيب. هي كانت محقّة في أن البيت لا يقع في الحي الذي وصلوه مع من معهم، لكن يبدو أن صاروخا أصاب البيت قاذفا بالباب إلى مسافة تبعد أكثر من مئة متر.

تقول الحاجة بهية محمد ياسين (85 عاماً)، التي يقع منزلها في المخيم القديم، أن أبا أحمد وجيرانه ممن يعيشون في المنطقة المتاخمة للبارد، وجدوا «على الأقل ما يروونه عما شاهدوه من بقايا منازلهم. بعضهم وجد كاراجاً أو غرفة أو حتى سقفاً مائلاً وعاد ليعيش تحته، أما نحن فلم نجد سوى تلال من الدمار تحولت إلى ساحات مجروفة».

أيهما أقل سوءً؟

لم تر الحاجة بهية ركام منزلها «فقد جرفوا المخيم القديم وحولوه إلى «بؤرة من الركام».

تعيش الحاجة اليوم مع زوجها رشيد أحمد رشيد (85 عاماً) في غرفة واحدة صغيرة في «البراكسات» المبنية من حجر الخفان وسقوف الزنك. أدرج منزلها في الرزمة الخامسة من منازل المخيم «يعني بعد شي عشرين سنة بيخلص، بتكون عضامنا صارت مكاحل».

يهز محمود، جار الحاجة بهية رأسه موافقاً. فبعد أربع سنوات على انتهاء الحرب، لم تُسلّم حتى الدفعة الأولى من الرزمة الأولى من منازل المخيم القديم، فكيف بالرزمة الخامسة؟.

تسمع الحاجة بهية كلامه فيما تتدحرج دمعة على خدها. كأنما كلام محمود جاء ليؤكّد ما كانت تتأمل أن يكون مجرد ظنون وتشاؤم شخصي نتيجة صعوبة العيش في «البراكسات».

كان بيت رشيد وبهية يتألف من طابقين وتحته ثلاثة محال. اليوم توزع الأبناء على مراكز النزوح، وسكن هو مع زوجته في غرفة صغيرة تم اقتطاع حوالى متر من زاويتها لبناء «المجلى»ة - المطبخ، ومتر أخر خصص للمرحاض.

يعتبر سكان «براكسات» الخفان أنفسهم محظوظين مقارنة مع من يسكنون «البراكسات» المصنوعة من الحديد. إلا ان جولة بين «البراكسات» من النوعين تبين أن النوعين أسوأ من بعضهما البعض.

ربما «يتباهى» سكان «الخفان» بأن الشمس تصلهم أكثر من سكّان «الحديد»، إلا أن الروائح تنتشر بين المنازل - الغرف المتداخلة والضيقة بطريقة تسبب ضيق التنفس. روائح الرطوبة وغياب التهوئة وتداخل المراحيض والمطابخ في الغرف الواحدة، وفي الأماكن الضيقة نفسها، بالإضافة إلى ضيق الممرات التي تفصل الغرف عن بعضها البعض.

وعلى البراكسات، نصبت الملاءات والأغطية الصوفية لحجب عيون الجيران والمارة عن أكثر تفاصيل حياة الإنسان خصوصية. في البراكسات، تنتظر الصبية لو أرادت تغيير ملابسها، خروج شقيقها ووالدها من الغرفة. وفي البراكسات، يتحدث الرجال عن كيفية تواصلهم الحميم مع نسائهم «خلص، عم نعمل تحديد نسل طبيعي»، يقول أحدهم.

في بداية الدرب المؤدي إلى غرفة الحاجة بهية، تقع غرفة عائلة بدر بدر. تضحك ميرفت، زوجة بدر، عندما نقول لها ان سكان «البراكسات» الحديدية «يحسدونكم» على الشمس. اقتطعت ميرفت من الممر المقابل مساحة متر مربع، وضمته إلى غرفتها لتضيف مكانا يتسع لنوم أولادها.

تتحدث ميرفت عن الأفاعي والعقارب والقوارض التي تعيش مع سكان «البراكسات» الخفانية، وعن مياه الصرف الصحي التي تفيض من قنوات التصريف الموقتة إلى أرضيات الغرف الإسمنتية، وعن الشتاء الذي يمطر داخل المنازل عبر الأسقف.

هي حياة لا تعرف ميرفت إلى متى ستستمر. بيتها صُنّف ضمن الرزمة الخامسة، «ونحن ننتظر تسليم وحدات الرزمة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وتأمين التمويل للرزمة الخامسة. يمكن أولادنا بيرجعوا على بيتنا بالمخيم القديم»، تقول وقد تملّكها اليأس.

كان بدر، زوج ميرفت، وهو رجل فقد ساقه اليسرى في حادث سير، يملك محل «بلاي ستيشن» في المخيم القديم. وبالإضافة إلى المحل، كان رب العائلة يملك دراجة نارية، يستخدمها لبيع الكعك لتلامذة المدارس.

ذهب البيت والمحل، ومعهما الدراجة ورأس المال، وقعد بدر في البيت «لا شغلة ولا عملة».

تعتاش العائلة من «الله» ومن بعض المساعدات التي تقدمها «الأونروا». تقول ميرفت ان «العدس والأرز والفاصوليا غالباً ما تصل غير صالحة للأكل ... السوس سوس، والأوساخ اوساخ ... وأحياناً منطعميهم للدجاج».

في جزء من «البراكسات»، تقطن عزيزة وهبي وعائلتها. عادت أم احمد للتو من عيادة لطبيب الأطفال خارج المخيم. تقول ان ابنتها البالغة من العمر شهرين بالتمام والكمال تعاني من ضيق في التنفس، وتصاب بنوبات تكاد تقتلها. يوصي الطبيب بضرورة تغيير مكان السكن نظراً للروائح الكريهة والدائمة التي تتنشقها الرضيعة.

غالباً ما تقوم أم احمد بإعطاء دواء الصغيرة لأخوتها الذين يكبرونها عندما تظهر عليهم اعراض ضيق التنفس عينها.

رئتا الصغيرة «تخران» طوال الوقت، وغالباً ما يميل لون بشرتها الزهري إلى الزرقة نتيجة ضعف التهوئة. لا تعرف أم احمد في أي رزمة يقع بيتها، تعرف أنها لن تنتقل إليه قبل سنوات طويلة. تقول انها لن تتعب قلبها «الضعيف أصلاً» منذ نزحت عن رزقها، وعادت لتسكن «علب الحديد». وتقول صبية تجلس بالقرب من أم احمد «انه من الأفضل البقاء في «البراكسات» ، «فعلى الأٌقل لدينا أربع غرف هنا بينما لن تزيد مساحة بيتنا عن سبعين متراً، هناك في «العلب الإسمنتية التي يبنونها»، في إشارة إلى صغر مساحات الوحدات السكنية في رزم مخيم نهر البارد القديم.

المصدر : جريدة السفير اللبنانية 31/3/2011