من استطاع العودة إلى بلد اللجوء الأول فقد عاد، أما من لم يستطع، فآثر البقاء هناك حتى لو كلفه ذلك حياته
بقلم: براهيم العلي
اللاجئ كلمة لا يتذوق معناها إلا من انصبغ بصبغتها ودار في أفلاكها. فما زلت أذكر يوم روى لي والدي قصة اللجوء، عندما سألته صغيراً: لماذا لا قرية لي أذهب إليها في أيام الصيف أُسوة بأصدقائي؟ فأخبرني يومئذٍ بأن عدواً لنا طردنا وهجّرنا عن أرضنا. فهي كلمةٌ تحرك في صاحبها الأوجاع والهموم، وخصوصاً عندما يقف أمام شباك التأشيرة عند نقاط المغادرة على الحدود؛ لأن من يقرأ الوثيقة يتغير لونه وحركات عينيه، وربما أعطى لنفسه الحق في أخذ استراحة أو إجراء اتصال كان محرجاً أن يجريه بحضرة غير اللاجئ. أما أنت، فلا حرج لديه في أن يفعل كل ذلك من دون أن تجرؤ على سؤاله عن سبب التأخير، بل تضطر إلى أن تبتسم بوجهه وتشكره في النهاية وقلبك يقطر دماً. بهذه الكلمات، استهل اللاجئ الفلسطيني نبيل أبو عيد، اللاجئ للمرة الثانية من الجماهيرية الليبية العظمى، التي اتخذها يوم دفعته ظروف البؤس والشقاء والحاجة إلى تحسين وضعه الاقتصادي للذهاب إليها، حالماً بتأسيس البيت الذي سيؤويه ذات يوم، ريثما يتحقق حلمه في العودة إلى قرية الجاعونة التي خرج منها والداه يوم كانت النكبة. ففي عام 1992، توجه نبيل إلى ليبيا عندما تبادرت إلى سمعه عبارة العقيد القذافي: " ليبيا لكل العرب "، وما إن وصل إلى هناك حتى بدأت رحلة البحث عن العمل؛ فلا رأس مال يستثمر به، ولا أصول ثابتة ولا متحركة، بل فكرٌ وهمة وسعي جعلت منه في ما بعد صاحب ورشة بلاط ورخام.
لم يشعر اللاجئ بالاستقرار النفسي، بل كانت تساوره المخاوف والهموم، وخصوصاً أن حوادث وقرارات عديدة صدرت بشأن اللاجئين الفلسطينيين، كان أهمها قرار الإبعاد الذي اتخذه العقيد القذافي في عام 1995 إلى منطقة السلوم في الصحراء على الحدود المصرية الليبية بعد توقيع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو بهدف إحراجها.
لقد نجمت عن هذه الحادثة مآسٍ طاولت عائلات فلسطينية بأسرها من مدينة مصراتة. أما في مدينة طرابلس، فأُجبرت العائلات على إخراج شخص واحد على الأقل من كل أسرة؛ فهناك أُسر أُخرج منها المعيل الوحيد فيها وتركت الزوجة والبنات فريسة للجوع والتشرد. لقد خسر اللاجئ كل الامتيازات البسيطة التي منحته إياها الحكومة الليبية قبل ذلك من وظائف وحق في الطبابة والتعليم.
وفي عام 1997 صدرت بعض القرارات الجديدة التي أعادت إلى اللاجئ الفلسطيني بعض الحقوق التي سلبتها قوانين وقرارات سابقة.
أما عن فترة الحصار الذي فرض على ليبيا بين عامي 1995 و2002، فقد كان المحاصر الوحيد هناك اللاجئ الفلسطيني؛ فلا دخول إلى ليبيا ولا خروج منها؛ فالسلطات المصرية لا تسمح له بالمرور من أراضيها، وكذلك تونس.
وبعد فك الحصار في عام 2002، أصبح اللاجئ الفلسطيني المقيم في ليبيا يحتاج إلى تأشيرة خروج وعودة، فكان بإمكانه أن يخرج، ولكن من الصعب جداً أن يعود، ما جعل الكثير يترددون في الخروج إلى بلدان اللجوء الأول لأسباب قاهرة، ربما كانت تتعلق بوفاة أحد الوالدين أو الإخوة؛ لأن ذلك سيكلفه فقدان عمله وبيته وفرص أولاده في استئناف التعليم. فقد شكلت هذه النقطة هاجساً كبيراً لدى اللاجئ، واستمرت هذه المعاناة حتى الفترة التي سبقت القمة العربية التي عُقدت في ليبيا بآذار 2010، عندما أصبح بإمكان اللاجئ الحصول على تأشيرة خروج وعودة، إلا أنه لم يهنأ بها طويلاً، فسرعان ما تراجعت السلطات الليبية عن ذلك وعادت إلى ما كانت عليه الحال سابقاً، وتجاوزت ذلك إلى منع منح اللاجئ الفلسطيني تأشيرة الدخول إلى ليبيا.
ومع بداية ثورة 17 شباط في ليبيا، خشي اللاجئ على نفسه من جديد، وبدأت ذكرياته المريرة تمر أمام عينيه، شعر بأنه الحلقة الأضعف في هذه المعركة وبأنه سيدفع الثمن في النهاية كما في كل مكان تنشأ فيه نزاعات في الدول العربية، فمرت أمام ناظريه صورة اللاجئ الفلسطيني في الكويت والعراق، حتى ظن أنه ملاقيها.
لقد تعرض الكثير من اللاجئين في بنغازي للأذى في بداية الأحداث. أما في مدينة طرابلس، فقد طاول قصف الناتو الشهيد عبد الله شهاب وعائلته المؤلفة من أربعة أفراد، هم: عبد الله، وزوجته كريمة، وتوأماهما خالد وجوانا، ذوا الستة أشهر. لقد طلب بعض الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين الذين أتوا من لبنان هرباً من الحرب الأهلية، والذين لا يمتلكون وثائق سفر تؤهلهم لمغادرة ليبيا والعودة إلى لبنان، ووجهوا نداء استغاثة عبّروا فيه عن أملهم في السماح لهم بالدخول؛ فمعظم هؤلاء باتوا محاصرين يبيعون أمتعتهم لكي يأكلوا، وليس لديهم عمل ولا مكان يؤويهم. لقد حاول البعض العبور إلى مصر، إلا أن الجيش المصري كان قد تلقى تعليمات بعدم السماح لأحد من اللاجئين الفلسطينيين بالدخول إلى مصر. لذلك، عاد الكثير من الفلسطينيين الذين سافروا باتجاه الحدود إلى منازلهم في المدن الليبية، ومنها بنغازي وطبرق وبعض المناطق المجاورة.
أما من استطاع العودة إلى بلد اللجوء الأول ممن يحملون وثائق السفر الصالحة، فقد عاد أدراجه إليه حاملاً معه ما خفّ حمله، تاركاً وراءه بيتاً بأثاثه ومؤنه. أما من لم يستطع، فآثر البقاء هناك حتى لو كلفه ذلك حياته؛ فقد استوت عنده الأشياء، فإما عودة إلى فلسطين حيث بيت الجد والأهل، وإما انتظار وإعداد ليوم يفرح به الفلسطينيون.
المصدر: مجلة العودة - العدد الخمسون