ناجي
العلي.. قصة فلسطين باختصار
أنطوان
جوكي
تحلّ
اليوم الذكرى السابعة والعشرون لاستشهاد رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي
(1936 ـ 1987) متأثّراً بجراحه بعد تعرّضه لعملية اغتيال في لندن يوم 22 تموز/
يوليو 1987. مناسبة للتوقف عند طبيعة شخصيته الفنية ورؤيويته التي تتجلى في رسومات
تشكل كمًّا من الشهادات الثاقبة المؤثّرة؛ لا على تاريخنا الحديث فحسب بل على ما
يحصل اليوم في فلسطين والمنطقة العربية والعالم أجمع.
ولعل
أفضل سبيل لقراءة شخصية العلي وأسلوب رسمه هي في وضعهما في سياق الأحداث الأليمة
التي عايشها وكان من أفضل المنتفضين على مسبّبيها، أياً كانت هويتهم، كما يشهد على
ذلك اغتياله من قبل جهةٍ لا تزال مجهولة حتّى اليوم، علماً أن أصابع الإتهام تشير
تارةً إلى الموساد، وتارةً إلى عميلٍ مزدوج.
الموضوع
الأول الذي قاربه الفنان في رسوماته هو اللاجئ الفلسطيني الذي يظهر من خلف الأسلاك
الشائكة بجميع رموز معيشه: مفتاح منزله الذي ما زال يحتفظ به، زهرة الأمل التي
تنبت على الجراح وعلى نوافذ السجون، مواطنه يسوع الناصري المصلوب أبدًا والحامل
بدوره مفتاح بيت لحم، والفدائي الذي يعبر الأسلاك الشائكة للموت شهيدًا على أرض
الوطن.
موضوعٌ
على شكل قصةٍ ترويها ذاكرة شعب مشتت: ذاكرة الأم والأب والإخوة والأخوات الذين
شاهدهم الطفل ناجي العلي، في مخيمات اللاجئين، يتأملون وطنهم من خلف الأسلاك
الشائكة واستمع إلى قصصهم يومًا بعد يوم فتحوّلوا لاحقًا إلى أبطال رسومه.
عند
النظر إلى رسومه الأولى التي أنجزها في بداية الستينيات، وتغذّي الأمل بالعودة
وتخترق ظلام السجون وتعبّر عن توق اللاجئ الفلسطيني إلى أرضه؛ يتبين لنا أن الرسوم
التي أنجزها انطلاقًا من عام 1967 تشكّل مرحلة جديدة أكثر حيوية، مع صعود المقاومة
الفلسطينية. فما كان مجرّد تلميحٍ للعمل المسلّح في الأعمال الأولى، اتّخذ بعد
العام المذكور شكلاً واضحًا مع لجوء الرسام إلى شخصية الفدائي، لكن من دون أن
يتخلّى عن طبيعته العذبة المسالمة وحبّه للسلم والعدالة، ومن دون أن يتجاهل أيضاً
قصص الخيانات والإهمال والطعن في الظهر التي سمعها وهو طفل.
وهذا
بالتأكيد ما جعل من العلي ناقدًا أخلاقياً وسياسياً فريداً في عالمنا العربي حمل
بوصلة تكاد أن تكون معصومة من الخطأ، تشير إبرتها دائماً إلى فلسطين وتضع أي وجهةٍ
أخرى موضع شك وسخرية لاذعة؛ وفضح بدون هوادة جميع أشكال الخداع والكذب، بما فيها
تلك التي ظهرت بحلّة فلسطينية واستعارت مفرداتها من لغة المقاومة.
وفي هذا
السياق ابتكر عام 1969 شخصية الطفل "حنظلة" الذي سيظهر في معظم رسومه.
طفلٌ بسنّ العاشرة (السنّ الذي غادر العلي فيه فلسطين)، حافي القدمين وبشعر منتصب
مثل القنفذ الذي يستخدم أشواك جلده لحماية نفسه. نراه داخل رسوم العلي في فضاءٍ لا
أرضية له، لأن لا وطن له. شاهد على مأساة شعبه، يدير ظهره للمتأمل في الرسوم كموقف
مما يجري.
أما عن
عقد حنظلة يديه خلف ظهره فيقول العلي إنها إشارة لرفضه لـ "الحلول" التي
تفوح منها رائحة الأيديولوجية الإمبريالية والصهيونية: "كتّفته بعد حرب
أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شامل. وهنا كان تكتيف الطفل
دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة، فهو ثائر وليس
مطبّعاً". ومع أنه طفل فلسطيني لن يكبر إلا حين يعود إلى أرضه، لكن ضميره
سيتطور مع الزمن ليصبح ضمير كل العرب، ثم البشرية جمعاء. كما سيصبح إمضاءً للعلي
ورمزاً للهوية الفلسطينية والتحدي حتى بعد رحيل مبتكره.
ويُفاجأ
المتأمل في الرسوم التي أبدعها العلي خلال السبعينيات، وأحيانا قبل ذلك، برؤيته
العميقة للأحداث التي كان يتوقف عندها، وبحدسه الذي مكنه من رؤية أشياء كثيرة نمرّ
بها اليوم، مثل النتائج الوخيمة لإسكات سلاح الفدائيين، وعلى رأسها اتفاقية أوسلو،
أو تحول القادة العسكريين إلى رجال أعمال يتاجرون بالقضية الفلسطينية وبمصير
شعوبهم، أو حتى حلول ثورات الربيع العربي الأخيرة.
فبعد
سلسلة من الرسوم صوّر فيها بعض الحكام العرب وهم يتقاسمون الثروات ويحرمون شعوبهم
من الحد الأدنى من الحقوق والكرامة، نشر في عام 1980 رسماً رؤيوياً نشاهد فيه
ملصقًا على جدار نقرأ في أعلاه كلمة "مطلوب" بالإنجليزية وتتوسطه صورة
ليست لمجرم قاتل بل للشعب في الشارع، تمامًا كما حصل ويحصل في منطقتنا منذ أكثر من
ثلاث سنوات.
وفي
عامَي 1982 و1985، أي قبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، أنجز رسمين تظهر في
الأول امرأةٌ تمزّق عنها عباءةً مزيّنة بنجمة داوود وتلفّ رأسها بوشاح كُتب عليه
عبارة "الانتفاضة"، بينما نشاهد في الرسم الآخر امرأةً بثيابٍ كنعانية
تلمّ حجارةً لأطفال منتفضين على العدو حولها. وحتى الجدار الذي ستبدأ إسرائيل
بتشييده عام 2002 لعزل فلسطينيي الضفة الغربية سيتنبّأ الفنان به في رسم نٌشر عام
1985.
ولأن
العلي عاش في لبنان (مخيم عين الحلوة) حتى عام 1963، ومن عام 1974 حتى عام 1982،
رصد جزءًا مهمًّا من رسومه لفصول الحرب الأهلية اللبنانية كشف فيها بعبقرية نادرة
خدعة تصوير هذه الحرب على أنها صراعٍ بين المسيحيين والمسلمين في حين أنها ـ في
نظره ـ حرب الأغنياء على الفقراء، بغض النظر عن الانتماء الطائفي للطرفين.
ولم
يُهمل الرسّام "الحرب العراقية الإيرانية" التي رسم طبولها على شكل
براميل بترول يضرب عليها لاعبان: أميركي وإسرائيلي؛ ولا سائر الصراعات والمشاكل
التي شهدتها منطقتنا، بل قاربها بشكلٍ ثابت ومن منطلق انتمائه العربي الصريح
وغيرته الكبيرة على المصالح العربية المبدَّدة.
باختصار،
يتميز فنّ العلي ببعدٍ أخلاقي كبير لعدم مراوغته أمام الجرائم التي شاهد اقترافها
بحق فلسطين أو أي بلدٍ عربي آخر. إنه فنّ مسرَحَة يتعرى على خشبته الجلاد والضحية
معًا. لكن بينما يظهر الطاغية بعينين على شكل قيودٍ، والمستعمر بهيئة وحش مدجج
بالأسلحة، والسياسي الفاسد بجسدٍ سمين ووجهٍ أملس بلا تعابير، تظهر الضحية بملامح
رقيقة وثياب بالية، عارية القدمين، فيتغنّى الرسام بشجاعتها حين ترتدي بذلة
الفدائي، ويعبّر عن تعاطفه معها حين تُهان أو تُعذب أو تُقتل.
في معرض
تفسيره لشعبية رسوم العلي وفعاليتها الثابتة، يشير الشاعر والناقد الفلسطيني محمد
الأسعد، رفيق درب ناجي، في أحد النصوص التي رصدها لـ "كتاب حنظلة" الذي
صدر في باريس عام 2011، إلى عدم استمداد هذه الرسوم قوتها من الفكرة التي تعبّر
عنها فحسب، بل خصوصًا من قدرتها على تجسيد الفكرة وشحنها بحيوية ضرورية، من دون أن
تفقد بساطتها وسهولة فهمها.
المصدر:
العربي الجديد