نقاش حول اتفاق أوسلو بعد ربع قرن
ماجد كيالي
منذ توقيعه، وحتى اليوم، أي بعد ربع قرن، ما
زال النقاش محتدماً حول اتفاق أوسلو (13/9/1993)، ضرورته، وثغراته، وكيفية إدارته،
وجدواه، أو آثاره على الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، كما على الإسرائيليين. وتزيد أهمية
مراجعة تجربة أوسلو، بطريقة نقدية، لأن هذا الأمر لم يعد يقتصر، اليوم، على التحليل،
أو عرض وجهات النظر فقط، لا لأغراض الدراسة ولا لأغراض المنافسات أو المزايدات الشعاراتية
أو الفصائلية، إذ أضحى هذا الاتفاق خاضعاً لاختبارات تجربة مريرة وطويلة ومعقدة قدرتها
25 سنة.
بداية، من المفهوم أن هذا الاتفاق عقد في ظروف
غير مواتية، عربياً، ودولياً، وحتى فلسطينياً، بعد عشر سنوات على أفول ظاهرة «الكفاح
المسلح»، إثر الخروج من لبنان (1982)، وتأكّل الكيانات السياسية الفلسطينية في الخارج؛
هذا أولاً. وهو أتى ليس بناء على نوع من التكافؤ في موازين القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين،
وإنما أتى في ظل تفوق إسرائيلي في كل شيء. بيد أن ما تقدم لا يفيد بأن القيادة الفلسطينية
ذهبت مضطرة إلى اتفاق أوسلو بالتحديد، إذ إن تلك القيادة كانت استجابت للتغيرات الدولية
والإقليمية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية (مطلع التسعينات)
بموافقتها على مؤتمر مدريد (1991)، وتغطيتها للوفد الفلسطيني من الأراضي المحتلة برئاسة
حيدر عبدالشافي (ضمن الوفد الفلسطيني ـ الأردني)، والذي كان لا يترك فرصة إلا ويؤكد
أن مرجعيته هي قيادة منظمة التحرير. والمعنى أنه إذا كانت المفاوضات اضطرارية واجبارية،
فإن اتفاق أوسلو كان مجرد خيار اتخذته القيادة الفلسطينية وقتذاك للالتفاف على الوفد
المفاوض، إن لخشيتها من تبلور مركز قيادي آخر للفلسطينيين (كما ظهرت نُواه في الانتفاضة
الأولى)، أو لخشيتها من المساعي الدولية والعربية الرامية إلى تهميش المنظمة وتحجيم
مكانتها، في تلك الفترة.
على ذلك، كانت ثمة نواقص وثغرات كثيرة وخطيرة
في الاتفاق المذكور، ما يبيّن كم أن القيادة الفلسطينية تسرّعت في عقده، ضمن ذلك عدم
تعريف إسرائيل بوصفها دولة احتلال، وعدم تعيين حدود الأراضي التي ينبغي أن تنسحب منها،
وعدم تحديد ماهية الحل النهائي، وعدم النص على وقف أعمال الاستيطان في الأراضي المحتلة،
ووقف أي محاولات لتغيير الواقع الديموغرافي في القدس، بحيث بتنا إزاء اتفاق مجحف وناقص
وجزئي، ثمة كثير من الملاحظات عليه، لعل أهمها يكمن في أن اتفاق أوسلو أدى إلى:
1ـ حل جزئي لجزء من شعب
في جزء من أرض مع جزء من حقوق.
2ـ تجزئة الشعب الفلسطيني،
الموزّع أصلاً في دول كثيرة، بحيث بات الفلسطينيون كأنهم فقط الذي يعيشون في الضفة
وغزة، تحت ولاية السلطة.
3ـ تهميش منظمة التحرير،
الممثل الشرعي لشعب فلسطين، والمعبر عن وحدته ووحدة قضيته وإزاحتها لمصلحة كيان السلطة،
وهو ما ساهمت فيه القيادة الفلسطينية ذاتها.
4ـ تحويل الحركة الوطنية
الفلسطينية من حركة تحرّر إلى سلطة تحت الاحتلال، مع علاقات التنسيق الأمني والتبعية
الاقتصادية والهيمنة الإدارية.
5ـ ترسيخ غياب الإجماعات
السياسية الوطنية وجمود البنى والكيانات السياسية الفلسطينية، بتوليد طبقة سياسية مصلحتها
حراسة الواقع المتمثل في السلطة.
6ـ بينت الوقائع، منذ
عقدين، أن ما تريده إسرائيل من الاتفاق هو تجزئة قضية فلسطين، وتجويف حركتها الوطنية،
والتحرر من صورتها كدولة استعمارية تسيطر على شعب آخر بالقوة، والتخفّف من مسؤولياتها
السياسية والأمنية والاقتصادية والأخلاقية كدولة احتلال.
أيضاً، ثمة أربع ملاحظات يفترض إدراكها في
هذا المجال، أولاها، أن خيار أوسلو، في الشكل الذي تم فيه لم يكن خياراً إجبارياً،
إذ كانت ثمة خيارات أخرى، ضمنها عدم التماهي بين المنظمة والسلطة، وترك الأمر بيد الوفد
الفلسطيني المفاوض من الضفة وغزة برئاسة د حيدر عبدالشافي، وإبقاء المنظمة ككيان سياسي
لكل الفلسطينيين، يعبر عن قضيتهم وعن وحدة مصيرهم. وثانيتها، أن إسرائيل هي التي قوضت
هذا الاتفاق منذ عشرين سنة (1999)، برفضها تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في الحل
الانتقالي، وبتبيّن انكشاف موقفها في مفاوضات كامب ديفيد 2 (2000)، وذلك على رغم كل
الإجحافات المتضمنة في الاتفاق بخصوص حقوق الشعب الفلسطيني، أي أن الاتفاق انتهى بفضل
إسرائيل والولايات المتحدة كما بدا واضحاً الآن. وثالثتها، أن هذا الاتفاق ما كان يمكن
عقده لولا موافقة ياسر عرفات، بمكانته في الزعامة والقيادة، أي أن الرجل بقدر مكانته
تلك يتحمل مسؤوليته عن الاتفاق المذكور، والمشكلة الأكبر هنا أن القيادة الفلسطينية
(بمن فيها زعيمها الراحل) لم تفعل ما ينبغي فعله لتحصين الوضع الفلسطيني، وتدارك ثغرات
أوسلو، وبث الروح في الحركة الوطنية الفلسطينية لتمكينها من تصحيح الوضع، حتى الآن.
بعد كل ذلك، ثمة هنا ثلاثة استنتاجات أساسية،
أولها، أن الحركة الوطنية الفلسطينية ما كان وضعها سيكون أفضل، ربما، من وضعها معه،
لأن تلك الحركة بعد الخروج من لبنان، وانتهاء الظاهرة المسلحة من الخارج، كانت تقادمت
واستهلكت، ولم يعد لديها ما تضيفه، أي كان ثمة جمود في التفكير السياسي وفي بنى الكيانات
الفلسطينية، أي الفصائل والمنظمة، وهو ما نلحظه حتى اليوم. وثانيها، أنه إذا كان وضع
الفلسطينيين وحركتهم الوطنية كان سيبقى، من دون أوسلو، سيئاً وصعباً مع الاحتلال والاستيطان
والتهويد، لكنه لن يكون أسوأ مما تم الوصول إليه، على الأرجح، لأن اتفاق أوسلو، بالنتيجة،
جزأ شعب فلسطين، وأخرج اللاجئين من معادلات الصراع، وهمّش منظمة التحرير الكيان السياسي
المعنوي لمنظمة التحرير، ولم ينجح بإقامة سلطة وطنية، في ظل هيمنة الاحتلال الأمنية
والاقتصادية والإدارية، ولأنه حد من قدرة فلسطينيي الضفة والقطاع على تنظيم أنفسهم
والكفاح ضد الاحتلال وفقاً لتجربتهم وإمكاناتهم. لذا، فإن الفلسطينيين من دون أوسلو
كان يُرجّح أن يكونوا أحراراً في مواجهة الاحتلال، وكان يمكن أن يصنعوا انتفاضة ثانية
على غرار الأولى، وليس كما حصل في 2000 ـ 2004، ومن دون أوسلو كان يمكن تجنب انقسام
بين الضفة وغزة وفي الحركة الوطنية الفلسطينية، بل كان مسار وحدة الشعب الفلسطيني في
فلسطين التاريخية سار في شكل أفضل، وربما كانت قدرة الفلسطينيين على تطوير حركتهم الوطنية
أفضل بواقعها كحركة تحرر منه بواقعها كسلطة. وثالثها، أنه ينبغي الاعتراف بأن كفاح
شعب فلسطين في الأرض المحتلة (1967) وتنظيمهم أوضاعهم، كان قبل قيام السلطة، وعودة
الفصائل، أفضل بكثير منه بعد قيامها.