نكبة فلسطين.. واستقلال إريتريا
* محمد مسوكر
لعلنا جميعا نعلم ان اللغة العربية المتداولة في
إطار الوسائل والوسائط الحاملة للثقافة القائدة، مليئة بالمصطلحات والمفاهيم المستوردة،
التي لا أجد في وصفها أصدق من قول المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في كتابه ‘خارج
المكان’ (انني مقدم على عمل متناقض جذريا هو إعادة بناء عالم في مصطلحات عالم آخر).
جميعنا نرزح تحت وطأة هذا التناقض الجذري لأننا
نعيش في زمن لسنا أعضاء فيه، بل ربما نحن مادته التي يستعان بها في الانتاج. الاقوياء
وحدهم قادرون على تسمية الاشياء، بل وعلى نعتنا وتسمية ذواتنا الخاصة التي يبدو أنها
ليست خاصة كما نعتقد دوما، لأننا كثيرا ما ننادي أنفسنا بأسماء يراعى استاقمتها مع
منطوق المجتمع الدولي، بصرف النظر ما إذا كانت عاكسة لواقع الناس أم لا.
هذا التقديم أوجبه التأمل التاريخي الذي يدعـــو
له هذا المقال، فتنشيطا للذاكرة لعل المهتمين يتذكرون أن الفضاء العربي في ستينيات
وسبعينيات القرن الماضي كان يعمل جاهدا على أن ينتصر لقضيتين بارزتين، وهما القضية
الفلسطينية والقضية الاريترية، والقول ان الاولى قضية مركزية لم يكن تعاليا على الشأن
الاريتري، كما يعتقد البعض، بل انها أحد أبعاد القضية الفلسطينية وتلك هي ضالة هذا
المقال.
حقائق التاريخ والجغرافيا معلومة، ولا يرغب هذا
المقال في تكرارها، ولكن من خلال التوافق الزمني بين القضيتين، حيث نعيش ذكرى النكبة
المستمرة لأهلنا في فلسطين المتزامن مع الذكرى العشرين لاستقلال إريتريا، نود أن نقرأ
ذلك، ولا بأس أن نستعجل ونفصح عن السؤال، كيف حدث إستقلال إريتريا رغم أن نكبة فلسطين
مازالت قائمة؟
كما أسلفت فأن الأقوياء وحدهم قادرون على تسمية
الاشياء، وهذا السؤال يعاني من سطوتهم، لأن القول باستقلال إريتريا ينسجم مع ثقافة
المجتمع الدولي، أما الكيفية والتعبير عن كافة أركان الجماعات المكونة للخارطة الاريترية
فهذا خارج دائرة اهتمامهم.
في العام 1948 عام النكبة الفلسطينية، أي عندما
بدأ الصهاينة في تشريد الفلسطيينين من ديارهم، كانت إريتريا تحت الوصاية البريطانية
بعد هزيمة ايطاليا، ولان المؤامرة كانت أكبر من الخارطة الاريترية، لم تتخذ الامم المتحدة
قرارا في اجتماع الجمعية العمومية الدورة الثالثة الذي خصص لمناقشة مصير المستعمرات
الايطالية، فأرجأ الامر الى 1950، وفرضت أمريكا ما يعرف بالمشروع الفيدرالي مع إثيوبيا
الامبراطور هيلي سلاسي، الذي عرف عنه صداقته الوطيدة لأمريكا واسرائيل، لذلك عندما
ابتلع اريتريا وأعلنها المقاطعة رغم 14، على الرغم من أن المشروع الامريكي نظريا يحدد
المدة الفيدرالية بعشرة أعوام تبدأ 1952- 1962، لم تتجاهل أمريكا الامر، بل شاركت في
هذا الابتلاع بان أقامت قاعدة لها في أسمرا بصحبة إسرائيل
.
انقسمت الجماعات الاريتــرية إزاء الأمر، فالقوى
الاجتماعية المنسجمة اجتماعـــيا ودينيا مع إثيوبـــيا لم تقاومه، ولكن تلك التي رأت
أنه نكبة استدعت المقاومة، وكذلك كان حال الشعب الفلسطيني، فكلاهما ضحية الامم المتحدة.
أنجبت الثورة الاريترية عددا من الزعماء والقيادات
السياسية والعسكرية كشقيقتها الكبرى فلسطين، فمثلما كان ابو عمار في الساحة الفلسطينية
كان في إريتريا عثمان صالح سبي، الذي توفي العام 1987 في احد المستشفيات بالعاصمة المصرية
القاهرة، في ظروف لا تقل غموضا عن تلك التي صاحبت رحيل أبو عمار في باريس.
عثمان سبي على الرغم من أنه لم يكن يملك قوات عسكرية
نافذة في الميدان الاريتري، إلا أنه كان يتمتع بحضور سياسي كبير، الأمر الذي جعله مرصودا
من الدول الكبرى، ودوما تجد في تحركه السياسي الربط بين مركزية القضية الفلسطينية وبعدها
في إريتريا، وان نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين يشترط بالضرورة حماية إسرائيل في
البحر الاحمر، من هنا تأتي الرؤية الدولية في تمكين إثيوبيا لأطول ساحل في غرب البحر
الأحمر.
تتلمذ سبي في أجواء ووعي جمال عبد الناصر الذي قدم
الثورة الاريترية الى العالم، من خلال ضمه واستضافته للقيادات المؤسسة لجبهة التحرير
الاريترية التي دخلت في خلافات في ما بينها، شأنهم في ذلك شأن القيادات الفلسطينية،
ولكن لم يقدر أي طرف منهم على أن يكون متناغما مع
البرنامج الدولي.
في العام 1974 حدث تحول مهم في مسار السلطة في إثيوبيا،
بسقوط حكم الإمبراطور هيلي سلاسي وظهور منغستو هيلي ماريام وادعائه الماركسية واحتمائه
بالاتحاد السوفييتي أو بالمعسكر الشرقي. وفق هذا المعطى السياسي الجديد لم تعد إثيوبيا
مأمونة الجانب للمصالح الغربية، وبدأ تعاظم الثورة الاريترية ذات البعد الفلسطيني
(جبهة التحرير أو عثمان سبي) يثير قلقا للغرب. في تلك الأجواء أنجب أسياس أفورقي تنظيمه
الذي عرف باسم (الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا) بقابلية كافية أن يكون البديل المحتمل
في حالة فقدان إثيوبيا قدراتها للعب الدور المناط بها من قبل الغرب، وأن يكون الضابط
لبوصلة الثورة الاريترية، وجاءت أولوياته كالتالي:
اولا، تصفية الثورة الاريترية من قواعدها السياسية
والاجتماعية التي تأسست عليها، وضربها عسكريا وملاحقة قياداتها العسكرية وتصفيتهم وقد
فعلت ذلك.
ثانيا، تقوية القوة الاثيوبية المناوئة لنظام منغستو،
وبالفعل ساهم في تمكين جبهة تغراي وبذلك استطاع أن يوفر الضمانات المطلوبة لحماية المصالح
الغربية التي هي بالضرورة المصالح الاسرائيلية أيضا، الأمر الذي أغدق على القوتين سيل
المساعدات الغربية بلا حساب .
حقبة الثمانينيات شهدا عملا دؤوبا من قــــبل القوتين،
إلى أن تم لهم أمر إزاحة نظام منغستو من السلطة، ولعل الذاكرة لا زالت تحتفظ بالمفاوضات
التي رعاها كوهين في لندن بين ملس زيناوي رئيـــس وزراء إثيوبيا الراحل وأسياس أفورقي،
وقبلها لقاء جيمي كارتر بأفورقي في مطار الخرطوم، الأهم في تقديري تزامن استقلال اريتريا
مع انهيار الاتحاد السوفييتي، ويحضرني هنا القول الذي شاع آنذاك، ‘استقلت إريتريا أم
سقط الاتحاد السوفييتي؟’. أعتقد أن الذي حـــدث هو تحديث إثـــيوبيا سياسيا بما يتناسب
ودورها المناط بها في ظل النظام الامريكي الجديد. أما السؤال الذي أفصحنا عنه في صدر
هذا المقال وهو للتذكير كيف حدث استقلال إريتريا، رغم أن نكبة فلسطين ماثلة؟
اذن من هم المتضررون من استقلال إريتريا؟ هم قيادات
وتاريخ وثقافة الذين كانوا البعد الأقليمي والدولي للقضية الفلسطينية، وأن النظام في
إريتريا مهما تجبر وطغى لن ترضى القوى الدولية بديلا له، ما لم يرضي الرغبة التي نكبت
فلسطين.
إذن مفهوم النكبة الفلسطينية لا يحتاج منا الى تعريف
لأنها ماثلة أمامنا، ولكن لأن صورة التناقض الجذري ماثلة في إريتريا وجب هذا الـتأمل.
*
كاتب في شؤون القرن الأفريقي
المصدر: القدس العربي