نكبتهم ويأسهم وتاريخنا
بقلم: لمى خاطر
هذه الكلمات كنت قد كتبتها قبل عامين في ذكرى
النكبة، أعيدها اليوم إلى الواجهة، إذ حالة الاحتلال الذي يسوّد أيامنا ما زالت كما
هي، ولكن مع فارق أن غيث المقاومة وعطاءها قد تضاعف حتى اخضرّ معه الأمل، وما عاد الألم
سيّد الموقف في هذه الذكرى، أو غيرها من محطات انتكاسة حالنا وعجزنا أمام متطلبات المواجهة.
أعيدها اليوم لأننا نحتاج دائمًا لاستحضار مشاعرنا
التي تتشكل حين تلامسها صفحات التاريخ غير السارة، ثم نقارنها بتلك التي تعيد صياغة
نفسها، إذا ما اتّسعت فسحة الأمل والثورة واليقين بالانتصار في جدار حصارنا الطويل،
ولكن غير المزمن أو المقيم:
كم تراه يلزم من سنوات إضافية تتكرر فيها ذكرى
الخامس عشر من أيار؛ ليكفّ بعدها الفلسطيني عن اجترار ركام وجعه، وإدامة النظر إلى
مفاتيح بيوت أجداده، والتحسّر على شمس البلاد وهوائها، وفرادة لون رمل شواطئ عكا ويافا
وحيفا، والبحث في وثائق تراثه المعاصر عن رائحة حكايا الجدّات وهنّ ينثرن الأنين مع
ذكريات البيت والبيدر وليالي السمر؟
وكم تراه يلزم من الوقت حتى تتحول الذكرى من مناسبة
لتأكيد لائحة حقوقنا في الإياب، ونفي شبهة النسيان عن شواهد عقولنا إلى يوم تراكم فيه
الأجيال عدّة التحرير وعتاده، وتختبر إقدام عادياتها التي أعدتها ليوم النفير، وصلابة
بنادقها، وامتلاء أغماد سيوفها، وسموّ منسوب الثورة في نفوسها؟
ذاكرة الفلسطيني ليست صندوقًا معتّقًا غير قابل
للامتلاء؛ فقد تزاحمت فيه صور عابرة للأزمان حتى أيقن أن قضيته لم تعد أغنيات حنين
على هامش الرحيل، ولا انتظارًا سرمديًّا لعودة ما عادت أبجدياتها تحلّق إلا بين طيات
الكتب وعلى ألسنة الشعراء، فما عاد مجديًا القول: "إن العودة حقّ وثابت مقدّس"؛
فيوم وصل الصاروخ الفلسطيني المحليّ الصنع (M 75) إلى أطراف القدس المحتلة بات لزامًا على عيون المقاوم
ألا تحبس مدّها خلف حدود الرابع من حزيران، وألا تسرف وقتها الثمين في شرح نظريات سياسية
لا تسمن ولا تُغني من جوع لحرية كاملة، وألا تخشى ارتجاف ساعدها، إن رماها اليائسون
بالعدمية.
ولما كان الإعداد للمعركة أحد أهمّ فصولها؛ فإن
القوام الفلسطيني ما زال محتاجًا لكثير من العناصر؛ حتى تكتمل فيه خصال الثائر الطويل
النفس، القادر على إدارة دفّة المعركة، وتغيير إملاءات الواقع؛ لتتحوّل نكبتنا إلى
نكبتهم، وعذاباتنا إلى عذاباتهم، وهواجس الترحيل إلى هواجسهم، ومعاناة اختلال الموازين
إلى معاناتهم.
ونحن نتكئ على تاريخنا الممتد، ويقيننا بأن الكيان
العبري لابدّ أنه زائل؛ ينبغي أن نستحضر آيات سورة الإسراء، ونحاول تلمّس ذلك الإشعاع
الطالع من ثناياها، وهي تقرر المصير وتؤصل للحق وتحدد معالم الطريق نحو استعادته، وحينها
يمكننا مراجعة حساباتنا السياسية كلّها بيسر دون الإسراف في البناء الموهوم عليها.
من هنا يطلع الصباح الفلسطيني، وفي تلك الساعة
يحين موعد الربيع من ناصية اليقين، وفي موعد تبرعم البنادق النابتة من تربة الوطن،
لا تلك المستأجرة من عدوّنا أو المحدودة المدى والقصيرة النظر والزائفة البريق.
ولن يستقيم أن تذرف البنادق المستأجرة رصاص احتضارها
في ذكرى النكبة، ولا أن تواسي عارها بافتراض أن التحرير مؤجّل إلى مجاهل المستقبل،
ولا أن يتهامس حملتها هازئين بحق العودة ومبدأ التحرير، وألسنتهم تلوك أمام مكبرات
الصوت كلامًا عن كنس الاحتلال وجلب أحلام المكلومين إلى حواضر دولة مهيضة الجناح.
لا يحقّ لمن سيحيي ذكرى نكبة هذا العام أو الأعوام
التالية أن يتلفّظ باسم يافا أو صفد، ويبكي القمر في ليلها، إن كان قد قرر مقدمًا أنها
أراض منزوعة من جذورها، وأن من ملكها بحدّ الحراب قد حاز شرعية الانتساب إليها؛ لأن
من ظل غير قادر على التقدم خطوة على طريق التحرير بين كل ذكرى وأخرى للاقتلاع واللجوء
يلزمه أن يبقى حبيس دوائره السياسية المتناهية الصغر، وأن يدعَ الحديث عن إزالة الاحتلال
واقتراب الفجر لمن أنشأ مقدمة قوامها الفعل المقاوم بين يدي حديثه عن الذكرى، ورفض
إعطاء عدوه حقًّا في تملك شبر من ترابه.
المصدر: فلسطين أون لاين