نهر البارد: مجزرة ثمناً لمقبرة!
بقلم: خالد العلي
يصرّ بعض من كتّاب الرأي وكتبة المقالات في الصحف اللبنانية، ممارسة رياضة "ادعاء الطهارة"، والإصرار على التعامي عن الحقائق، حتى في اللحظة التي يغرق فيها الوطن بأكمله.. بالنسبة لهؤلاء، فإن كل ما يجري في لبنان هو من صنع "الغرباء" و"الآخرين" و"المتآمرين" الأجانب، وكأنّ في لبنان ملائكة تمشي على الأرض، وليسوا من جنس البشر الذين يخطئون ويصيبون.. ومن لا يخطئ، أو بالأحرى من لا يخطر في باله أنه يمكن أن يخطئ، فإنه لا يعرف للحق ولا للحقيقة سبيلاً.
وقسم من هذا البعض نذر نفسه لمحاربة كل ما هو فلسطيني، ويا ليته يعرف أنصاف الحقائق عن فلسطين أو مخيمات اللاجئين.. بل يا ليته يعرف أبجديات الكتابة الصحفية.. فالكاتب المتحذلق والمتشاطر لا يقدم لقارئه مجموعة من الأغاليط والأكاذيب المكشوفة، بل عليه أن يزيّن أكاذيبه ببعض نثرات من الحقيقة، وإلا كان كمن يشكو هو نفسه من البلاهة والعتاهة.
وما أكثر الأكاذيب والتلفيقات التي طلعت بها علينا جمهرة من كتّاب الرأي وكتبة المقالات تعليقاً على أحداث نهر البارد، التي تفجرت يوم الجمعة الماضي، وأسفرت عن شهيد وأربعة جرحى، لتعود فتنفجر مجدداً يوم أمس، لتسفر هذه المرة عن شهيدين وحوالي سبعين إصابة، ما بين إغماء وكسور وإصابات مباشرة.
يبدو من خلال ما كتبه أولئك أنهم لم يكلفوا أنفسهم مجرد الاطلاع على الحقائق، أو تكليف أنفسهم معاناة الاتصال بأي فلسطيني يعيش في هذا البلد، ليتعرف على الأقل على الحد الأدنى من المنطق الفلسطيني للأحداث.. ولا بأس أن يقوم بعد ذلك بنقده أو حتى بمهاجمته، ولكن على بينة. لا أن يجلس وراء التلفاز في غرفة نومه أو على كرسي في أحد المقاهي، ثم يسحب قلماً ليخط به ما يتلوه عليه شيطانه، لا ما تقرره الوقائع والأحداث.
المشكلة أن هذا البعض يعتبر نفسه "عليماً" و"فهيماً" و"ملهماً" و"بيلقطها على الطاير"، بل وتسول له نفسه أن يحسب نفسه من كبار الكتبة والمفكرين، يصبح أمثال روبرت فيسك وتوماس فريدمان، الذين يجوبون القارات قبل كتابة مقال واحد، مجرد أقزام مقارنة بذاته المنتفخة!
خلال تفجر الأحداث الأخيرة في مخيم نهر البارد تعالى زعيق هؤلاء وهم ينشطون الذاكرة المبتورة حول أحداث نهر البارد في العام 2007، ويتذاكون في الربط بين ما يجري في لبنان والمنطقة وبين ما يجري في نهر البارد، بل وذهب البعض الى إعادة استحضار اتفاق القاهرة وبدايات الحرب الأهلية!!
أن يربط المحلل والكاتب بين الظواهر المختلفة، وأن يسعى لإيجاد رابط بين الأحداث المتشابهة والمتزامنة، وأن يسبر غور التاريخ، بهدف تحليل ظاهرة ما، فهذا أمر مفهوم في الكتابة السياسية، بل وواجب. لكن، هل يتم ذلك بعيداً عن المنهجية العلمية أم التزاماً بها؟ هل تكفي مجرد عملية تخمين مغلقة لكي يتم إدراك الحقائق، أم أن الأمر يستلزم إجراء الأبحاث الميدانية، والاستماع الى وجهة النظر الأخرى؟ هل يخطر ببال هؤلاء للحظة واحدة أن ثمة رواية أخرى غير الرواية التي تنطلق من مواقفهم المسبقة الصنع، على قاعدة شيطنة الآخر وادّعاء طهارة الذات؟!
هل يتبادر الى ذهن هؤلاء أن هناك "بشراً" في مخيم نهر البارد، لهم الحق في الحرية والكرامة؟!.. بل الحق في الموت!
هل يدرك هؤلاء أن مطالب أهالي نهر البارد تقتصر على مقبرة يدفنوا فيها موتاهم، وعلى وقف الإهانات التي يمارسها بعض عناصر الجيش اللبناني على الحواجز في الدخول والخروج، وعلى حفظ حرمة المنازل والبيوت، وعلى وقف العمل بنظام التصاريح المذل والمهين؟!
هي مطالب بسيطة لأناس يعيشون في مخيمات بؤس وحرمان، تفتقر لأدنى مقومات الحياة الآدمية، في ظل حكومات تتنكر لما تفرضه عليها كل قوانين اللجوء في العالم، وشرعة حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، وميثاق الجامعة العربية!
سأقول لكم ما هي قصة المقبرة التي سقط لأجلها يوم أمس شهيدين وحوالي سبعين إصابة!
منذ أن دخل الجيش اللبناني الى مخيم نهر البارد، وضع يده على بعض الأراضي داخل المخيم، وأعلنها أراض عسكرية، رغم أن هذه الأراضي كانت عليها بيوت يعيش في داخلها بشر. لكن الجيش رفض السماح لأصحابها باستردادها، وقام بمصادرتها. نحن لا نتحدث عن قطعة أرض واحدة صغيرة، بل عن عدة قطع من الأرض.
تحمل أهل المخيم ذلك. وقبلوا أن تفرض عليهم وكالة الأونروا ما يسمى "بيوتاً"، وهي أشباه بيوت، حيث يتسلم رب العائلة بيتاً موزعاً بين طبقات ثلاثة: المطبخ في طابق، وغرفة النوم في طابق، وغرفة الجلوس في طابق. ورغم ذلك تحمل أهالي المخيم.
ومن أصل ثمانية "بلوكات" سكنية، كان يجب أن يستكمل بناؤها منذ أكثر من عام، لم ينجز منها حتى الآن سوى اثنان، والثالث على الطريق.. وتحمل أهالي المخيم، وهم يقضون أيامهم ولياليهم في البراكسات. ولمن لا يعرف ما هي البراكسات، فما عليه إلا أن يجرب لساعة واحدة أن يعيش داخل علبة حديدية في الصيف أو الشتاء!
بعد سماح الجيش لأهالي المخيم بالعودة إليه، أصدر نوعين من التصاريح: دائمة ومؤقتة. يمكنك أن تحصل على تصريح دائم فقط إذا كان لك بيت داخل المخيم. وإلا فبإمكانك الحصول على تصريح مؤقت لمدة 3 أشهر، بإمكانك تجديده ساعة تشاء.
ماذا يعني ذلك؟! ببساطة يعني أنه إذا كنت من أصحاب التصاريح المؤقتة، وإذا كانت صلاحية التصريح منتهية لسبب ما، واتصلت بك والدتك لكي تزورها أو تنقلها الى المستشفى، أو إذا ما توفيت فجأة، فإنه لا يمكنك فعل أي من ذلك، ولا حتى أن تشارك في جنازتها.. فأنت منتهي الصلاحية! (وللأمانة، فإن الجيش اللبناني تسامح في حالات الوفاة، شرط أن تترك هويتك عند الحاجز، وتعرف اسم المتوفى وشهرته، وتحدد ساعة خروجك، وربما تضطر الى إحضار من يعرّف عنك – أي وكيل).. وتحمل أهل المخيم ذلك!
وبالحديث عن الموت، نصل الى الحديث عن أرض صامد التي سالت لأجلها الدماء! هي في الأساس أرض تمتلكها، بموجب القوانين اللبنانية، منظمة التحرير الفلسطينية. وبما أن أماكن التحرك داخل المخيم محددة لأسباب أمنية وعسكرية – يجهلها أهل المخيم – كان مسموحاً لهم أن يدفنوا موتاهم في رقعة أرض صغيرة محددة. فعلوا ذلك!
لكن المقبرة الصغيرة امتلأت عن بكرة أبيها.. ولم تعد تتسع لأكثر من خمس جثامين في القبر الواحد. وبات أهالي المخيم "يموتون" من مجرد التفكير بموت أحدهم.
طرقوا الأبواب جميعاً.. قيادة الجيش، القادة السياسيين، النواب، الوزراء، مفتي الجمهورية.. الوعود كثيرة، لكن هل يمكن لميت أن ينتظر وعداً؟!
بدأ الناس يبحثون عن حل! فكروا – بين الجد والهزل – أن يقوموا بحرق موتاهم وذر الرماد في البحر. وكانوا يتندرون: لو أن أحداً من المشايخ في لبنان يفتي لنا بجواز ذلك لفعلناه.. لكن حتى الفتوى لم تحضر! وبعض أصحاب السماحة ضحكوا عندما استفتاهم بعض الأهالي في المسألة!
حصل ما حصل يوم الجمعة الماضي (ولذلك قصة أخرى) واستشهد الفتى أحمد القاسم البالغ من العمر 15 عاماً برصاص الجيش اللبناني.
في البداية رفض أهل المخيم دفنه.. وبصراحة وجدها البعض مناسبة لحل مشكلة الأموات، بما أن الأحياء يستطيعون الانتظار. وبعد ثلاثة أيام من المفاوضات المضنية فيما بينهم، توصلوا الى حل هو أن يسمح لهم بدفنه في مكان جديد، ويكون جثمان الشهيد فاتحة لمقبرة جديدة. حتى أن أبناء المخيم اختلفوا فيما بينهم إذا كان سيدفن في (ملعب الشهداء الخمسة) أم في (أرض صامد)، مع العلم أن المكانين مصادرين عسكرياً لأسباب أمنية، دون أن يقدم أحد جواباً على سؤال كبير: ما هو التهديد الأمني الذي يمكن أن يشكله ميت؟!
تفاجأ أهل المخيم بأن أهل الشهيد قرروا دفنه في مقبرة (خالد بن الوليد)، وهنا ثارت الثائرة ولم تقعد. أول اعتداء قام به الشبان الغاضبون هو تكسير زجاج سيارة جد الشهيد، وتحطيم أجزاء منها، وبدأت صيحات الغضب تتعالى وتتهم أسرة الشهيد بأنه خان "القضية"، وبأنه خضع للضغوط.. حصل هذا قبل الدخول الى أرض صامد، وقبل إحراق الآلية العسكرية للجيش، وقبل أن يحصل كل ما حصل. هجم الشبان على أرض صامد وهم يرددون (مش مهم الصف الأول، بدنا صامد بالأول) في تهكم على قيادات وممثلي الفصائل الفلسطينية التي كانت تتزاحم للوقوف في الصف الأول للتشييع.
هل يخطر ببال أحد من المحللين العظام الآنفي الذكر أن هذه هي الأسباب الحقيقة لأرض صامد؟ وللأمانة، فإن فصائل المقاومة كانت قد طلبت من قيادة الجيش إخلاء النقطة العسكرية الموجودة في أرض صامد أثناء التشييع، والأرض لن تطير!
الحقيقة البسيطة والمباشرة هي أن أهل مخيم نهر البارد وعناصر الجيش اللبناني يدفعون – على حد سواء - وللمرة الثانية، ثمن الملهمين العظماء من الساسة والمفكرين والكتبة، الذين ينظرون الى البعيد البعيد، ولكنهم ينسون النظر الى حيث تدوس أقدامهم، فيقعون في الحفر الصغيرة!
رجاء، ما تقدم هو غيض من فيض.. فهل تتكرمون علينا وتتفضلوا بزيارتنا قبل أن تحكموا علينا، وتسمعوا بقية الحكاية؟! بليز!
ملاحظة: حتى أنتم بحاجة الى تصريح إذا كنتم من الصحافة والإعلام! فلا تنسوا أن تحضروه معكم.