هدنة بين حماس
وإسرائيل.. ما المشكلة؟
بقلم: أسامة
أبو ارشيد
سلطت تقارير إعلامية، أجنبية
وعربية، الأسبوع الماضي، الضوء على ما قالت إنها مفاوضات بين مبعوثين دوليين، بعلم
إسرائيلي، مع حركة حماس حول إمكانية التوصل إلى هدنة، طويلة أو قصيرة الأمد، بين فصائل
المقاومة في قطاع غزة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، في مقابل رفع الحصار المتواصل على
القطاع منذ أكثر من ثمانية أعوام. ملخص تلك
التقارير أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ومبعوث الرباعية الدولية سابقا، توني بلير،
التقى رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، مرتين في الدوحة (يقال إن أحد اللقاءين
تم في الفترة التي كان فيها بلير لا زال مبعوثاً للرباعية)، وإنه ناقش معه كيفية إنهاء
الحصار المفروض على قطاع غزة. وحسب تقرير للصحافي البريطاني، ديفيد هيرست، نشره موقع
"ميدل إيست آي"، تطرق النقاش بين الرجلين إلى شروط وقف إطلاق النار ومدته،
مقابل ميناء بحري للقطاع المحاصر، وربما أيضا مطار، غير أن النقاش كان ضبابياً في ما
يتعلق بمسألة سلاح المقاومة في القطاع والمطلوب منها مقابل رفع الحصار. واستنادا إلى
التقرير نفسه، وتقارير أخرى، فإن تحرك بلير هذا، الذي يبدو أنه تم بعلم إسرائيلي-بريطاني-أميركي-مصري-قطري-تركي،
ليس الأول من نوعه، فهناك تحركات سابقة قادها مبعوثون سويسريون، بالإضافة إلى أفكار
حول هدنةٍ كان قد طرحها من قبل مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى الشرق الأوسط، روبرت
سيري.. إلخ.
على أي حال، وبعيداً عن
تفاصيل التقارير الإعلامية بشأن موضوع الهدنة، والذي أكده مسؤولون في حماس، وإن كانوا
اختلفوا حول جديته، ما يعنينا هنا يتمثل في ردود الفعل التي صدرت عن بعض مناصري حماس
ومناوئيها على السواء.
من المفهوم طبعاً أن يشنّع
مناوئو الحركة عليها، ويرموها بكل نقيصة، ومن ذلك اتهام رئيس السلطة الفلسطينية، محمود
عباس، وناطقي حركة فتح، حماس بمفاوضة إسرائيل مباشرة بعيدا عن "الشرعية"
الفلسطينية، وسعيها إلى تدمير المشروع الوطني الفلسطيني، وسلخ قطاع غزة عن الضفة الغربية
وإقامة دولة مستقلة فيه. ولا يحتاج المرء إلى كثير اطلاع وعميق دراية سياسية، ليدرك
تهافت تلك الاتهامات. فـ"نجوم" التفاوض الفاشل، فلسطينياً، مع إسرائيل، يقبعون
في مدينة رام الله في الضفة الغربية، وعندما فتحوا مزاد المفاوضات، قبل قرابة أربعة
وعشرين عاما، لم يطلبوا، ولا زالوا لا يطلبون، تفويضاً شعبياً فلسطينيا، و"شرعية"
من يدعي الشرعية اليوم محل تساؤل كبير. وإذا كانت الحلول المجزأة والمرحلية والمؤقتة
كارثة على القضية الفلسطينية، وهذا مؤكد، فالأولى أن لا يذهب قادة رام الله بعيداً
في اتهاماتهم، فهم الآباء الشرعيون لمشروع "غزة-أريحا" أولا، كما أنهم هم
سدنة سياسة مناطق "أ"، "ب"، "ج" التي مزقت الضفة الغربية،
وجعلتها مشاعا مستباحاً لإسرائيل تبتلعها بغول الاستيطان. أيضا، في رمي حماس بمحاولة
سلخ قطاع غزة عن الضفة الغربية افتئات كبير، ولا يمكن للسلطة الفلسطينية أن تغسل يديها
من هذه الجريمة، وهي من لا تزال، إلى اليوم، ترفض مَدَّ ولاية "حكومة التوافق"
التي تحتضر الآن، إلى قطاع غزة، بحجج وذرائع كثيرة واهية، والأدهى أنها طرف مباشر في
حصار القطاع، وتحريض إسرائيل ومصر على تشديده. ولا ننسى، هنا، أن مفاوضي منظمة التحرير
الفلسطينية والسلطة، هم من سلخ من قبل قضايا مركزية عن سياق التفاوض العام، وخصوصا
قضايا السيادة والقدس واللاجئين، بشكلٍ ساهم في تعزيز الكارثة الفلسطينية اليوم.
إذن، ليس من حق السلطة الفلسطينية
القائمة في بعض مناطق الضفة الغربية المحتلة أن تحمّل حماس، وحدها، مسؤولية الوضع الفلسطيني
الكارثي، فالكارثة التفاوضية الفلسطينية بدأت من عند قادتها، وتنهي بهم.
على الصعيد الآخر، يأبى
بعض أنصار حماس ومحبيها أن يستفيقوا من طوباويتهم، فهم لا يرون حماس إلا من خلال رصاص
كتائب عز الدين القسام وصواريخها وأنفاقها، ويتناسون أنها مسؤولة عن معاش قرابة مليوني
فلسطيني. يطلق بعض أولئك أحكاما قيمية مطلقة، مثل أن دخول حماس في الانتخابات التشريعية
عام 2006 كان كارثياً، فمنذ ذلك الحين، حسب قولهم، وحماس تعيش معضلة الجمع بين رايتي
المقاومة والسياسة. ولا يسأل هؤلاء أنفسهم عن أفق المقاومة، التي يتحدثون عنها من دون
سقف سياسي واقعي، وليس بالضرورة تنازلياً. نعم، ضربت حماس، ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية
الأخرى، أروع أمثلة الصمود والتحدي أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة، غير أن
الواقع يقول إن ميزان القوى مختل، بشكل رهيب، لصالح إسرائيل، فضلا عن أن السياقات المحلية
والإقليمية والدولية ليست في صالح المقاومة الفلسطينية بحال. أيضاً، لا يلقي هؤلاء
بالاً لحقيقة أن قدرات المقاومة تعززت في قطاع غزة في ظل شرعية سياسية وشعبية لها،
وأن الضفة الغربية، في كل الأحوال، سواء أكانت حماس شاركت في انتخابات 2006، أم لا،
معضلتها قائمة، فالوجود الاحتلالي الإسرائيلي فيها مباشر، والأجهزة الأمنية الفلسطينية
فيها أذرع له.
قطاع غزة محاصر منذ أكثر
من ثمانية أعوام، وتعرض لثلاثة اعتداءات عسكرية إسرائيلية وحشية كبرى في السنوات الست
الماضية، وحجم الكارثتين الإنسانية والعمرانية فيه أكبر من أن تصفها الكلمات. فهل كتب
على قطاع غزة وأهله المنكوبين أن يتحملوا مسؤولية المشروع الوطني الفلسطيني برمته من
دون الضفة الغربية، في حين نكتفي نحن، فلسطينيي الخارج، بالمشاهدة أو التنظير أو إقامة
فعاليات المناصرة التي لا يسد كثير منها جوع طفل في غزة، أو يوفر دواء لمريض فيها،
أو يرفع أعمدة سقف مدمر؟
هذا لا يعني أن هدنة مرجوة
في قطاع غزة مقبولة بأي ثمن، بل إن السبب الرئيسي لتعثرها، إلى اليوم، هو تمسك قيادة
المقاومة بشروطها الأساسية، المستندة إلى أداء مشرف في ميدان الوغى. فهي لا زالت ترفض
الاعتراف بإسرائيل ثمناً لأية تهدئة أو رفع للحصار. كما أنها ترفض المساومة على سلاحها
أو عدم تعزيزه في مقابل ميناء بحري أو مطار. دع عنك أنها لم تقل إن هدنتها ستكون فترة
استرخاء ومقدمة لتنازلات، فالهدنة تستلزم تحديدها بسقف زمني. أما الحديث عن كارثية
فصل المقاومة بين شروط هدنة في قطاع غزة والوضع في الضفة الغربية، فيبدو أن من يطرحه
يتناسى عامداً أن الضفة الغربية تعيش أكثر من هدنة في ظل الكبت والقمع اللذيْن تمارسهما
السلطة الفلسطينية. ومن ثمَّ، إن تحسين الوضع في الضفة الغربية، وتعزيز مقاومتهـا،
مسألة فلسطينية-فلسطينية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مسألة تفاوض بين المقاومة وإسرائيل.
باختصار، التشنيع المسبق
على فكرة هدنة محتملة بين حماس وإسرائيل لا يقوم على أسس مقنعة، فهي إن تمت ستكون حصيلة
تفاوض لا إملاء. فإن تمكنت حماس من تأمين هدنةٍ محدودة زمنيا، بشروط معقولة ومشرفة،
فبها، وإلا فإن شيئا لن يتغير، ولا يقبل من حماس أن تأتي باتفاق كارثي، من طراز اتفاقات
السلطة الفلسطينية. فإذا كان هذا هو الحال، فالسلطة تقوم بالمطلوب وزيادة. والأولى
بالطرف المناوئ لحماس أن يسعى إلى بناء مشروع وطني فلسطيني، يدمج حماس وفصائل المقاومة
وقطاع غزة، بدل محاولة عزلهم وخنقهم، ثم الردح عليهم. كما أن الأَوْلى، بمن يريد أن
يقاتل إسرائيل حتى آخر غزاوي أن يشمر عن ساعديه أولاً، قبل أن يطالب الناس بأن يموتوا
وينكبوا في سبيل راحته وطوباويته هو.
المصدر: العربي الجديد