هذه فرنسا؟ يا للنكبة!
نصري الصايغ
فرنسا تحذف «النكبة» الفلسطينية من مناهجها الدراسية، بناء على طلب المؤسسات اليهودية. أما بعد.
في الذاكرة العربية، إعجاب رواد النهضة بفرنسا. قرأ الطهطاوي باريس، ولخص مشاهداته ومقتبساته، في كتاب مرجع، أعلى فيه شأن الديموقراطية والنظام الجمهوري والحريات التي كرستها مبادئ الثورة الفرنسية. وقلما نجد كاتباً أو مفكراً اتصل بالغرب، ولم يتشرب من فرنسا، ما أبدعته عقول عصر النهضة.
باريس ذلك الزمن، كانت مدرسة. تلامذتها منتشرون في القارات، وصولا إلى أميركا. واللافت، ان السياسة الاستعمارية لفرنسا، لم تقدر، برغم فظاعة جرائمها، (وقد نلنا من قبضتها الكثير) أن تكسف وهج فولتير وروسو والانسيكلوبيديين. غبار معاركها القذرة في افريقيا وآسيا والشرق الأوسط، لم يحجب ثورتها، ومبادئ الجمهورية والعدالة والحرية وحقوق الإنسان. كان العالم يصدّق كتابها أكثر من تصديقه همجيتها... شكيب ارسلان نموذجاً. فرنسيس المراش كذلك. وكوكبة الرواد أيضاً وأيضاً.
كم كان الفيلسوف مانديلا بليغاً في شهادته على العصر الديموقراطي البريطاني: «تعلمت الديموقراطية في بريطانيا. وآمنت بها أسلوبا لشعبي، لكن هذه الديموقراطية التي وثقت بها سجنتني في بلدي ربع قرن من الزمن».
لا حقائق... خارج الصراع. حقائق الكتب والفكر، وهمٌ وسراب، أمام نصاعة الارتكاب وفظاظة الاستبداد. ومع ذلك، حافظت فرنسا على شبهة «حقوق الإنسان». لم تتجرأ النخب الثقافية والسياسية في فرنسا، على ارتكاب حماقات تربوية وسياسية وإعلامية، تسيء إلى مبادئ الحرية والعدالة والنزاهة. استمرت المبادئ سارية المفعول في المجتمع الفرنسي، برغم الفجوة الكبيرة بين التزام بها داخلياً، وبين استهتار بها في الخارج.
ظل هذا العرف في ممارسة الازدواج قائما، انما كان مداناً من قبل مثقفين وكتاب ومفكرين وإعلاميين وأكاديميين ويساريين وخضر وبيئيين وعالمثالثيين. هؤلاء، استمروا على وفائهم للمبادئ في الداخل والخارج. وقرأنا لهم وسمعنا منهم، ما جعلهم منارات عالمية.. وقفوا إلى جانب حرية الجزائر (سارتر نموذجاً)، وإلى جانب القضايا العادلة في المعسكرين، الغربي والشرقي، بل ان أممية ثقافية، ناهضت الاستعمار والتمييز العنصري والاستغلال والحروب الامبريالية.
السلطة ترد بالسياسة، والمثقفون يتحدون هذه السياسة، بالمبادئ. غير ان اكثرية هذه الجباه المرتفعة، كانت تخر ساجدة على ركبها، لتنال البركة من اسرائيل وفروعها الصهيونية المنتشرة في الثقافة والاعلام والمال والفن... والسياسة.
أمثال جان جينيه، قلة نادرة. أقلام «لوموند دبلوماتيك» ضوء وسط ظلام دامس... ومع ذلك، كان هذا مفهوماً. فالصراع، يفرض الحقائق، ولو كانت ارتكابات وجرائم لاإنسانية. انما ما يحصل، مع المحافظين الجدد من الفرنسيين، انهم أصبحوا مركز الثقل السياسي والثقافي والاعلامي، بعد تراجع وتضاؤل وهج الاحزاب الفكري. وللمحافظين الجدد، أولوية التأثير على سياسات باريس. وقد استطاع هؤلاء، تغيير قواعد اللعبة، في المسرح السياسي والثقافي الفرنسي.
خطورتهم، ليست في السياسة، بل في تبديل وجه فرنسا الثقافي، التنويري في العالم.. بل في تزوير التاريخ، وكل ذلك من أجل «حكماء صهيون» في الداخل والخارج الاسرائيلي.
باريس، تحت ضغط «حكمائها الجدد» (وهم بالمناسبة، صهاينة أولا، ويهود أولا، وليكوديون أولا) حذفت «النكبة» الفلسطينية من مناهج الدراسة.
لم تعتذر باريس عن ارتكاباتها. لم تقبل بمراجعة استعمارها. وهي اليوم، تتجرأ على حذف تراثها الإنساني، عبر حذف النكبة.
لقد فعلتها باريس... وستفعل اكثر من ذلك... لأن أنظمة العرب سبقتها إلى حذف فلسطين من الذاكرة الشعبية، وأقدمت على اتهام من يؤمن بفلسطين، بأنه إرهابي.
حسناً... اكتبوا: النكبة كانت كذبة... وأنها لم تقع... وأن اسرائيل كانت الضحية...
اكتبوا ما تشاؤون... فالقوة، اليوم وغدا، في لبنان وسواه من قبضات وسواء، هي القول الفصل، في تدبيج الحقائق. النكبة، لم ولن تكون نصاً في كتاب، بل هي فصل من فصول الصراع... ولم يحسم بعد. دماء الشباب في يوم النكبة، نص جديد، فلننتظر التتمة.
المصدر: جريدة السفير اللبنانية