هل هي شرارة الانتفاضة الثالثة؟
بقلم: الياس سحاب*
للحظة سياسية قصيرة، بدا كأن الجمود قد أصاب الساحة الفلسطينية في الصراع العربي ـ الاسرائيلي:
ـ "إسرائيل" تواصل تشديد حصار غزة، وضربها ضربة جوية عقابية كلما حاولت التنفس، كما تواصل من جهة أخرى بلا أي كلل أو ملل توسيع رقعة الاستيطان في الضفة الغربية عموما، والقدس العربية ومواقعها المقدسة خصوصا.
ـ الساحة الفلسطينية تبدو كأنها استسلمت لقدرها العربي وقدرها الاسرائيلي، واكتفت في غزة بوجود حماس على رأس السلطة السياسية والامنية فيها، كما اكتفت في الضفة الغربية بعطايا الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، كريمة كانت هذه العطايا أم شحيحة.
غير أن الفساد استشرى في السلطة وتوسع حتى أصبحت العطايا تقصر في مجال تغطية الاحتياجات الضرورية للإنفاق الحكومي، في كل مجالات الحياة اليومية العامة. فإذا كان الفساد المالي مقترنا بالعجز السياسي المزمن، تبدأ كل مكونات البركان السياسي بالتراكم، بحيث لا ينتظر انفجارها إلا شرارة حقيقية واحدة.
بدا محمود عباس في موقف أقرب الى التقليد الكاريكاتوري للسياسي البريطاني ونستون تشرشل، الذي خاطب جموع البريطانيين في خضم الحرب العالمية الثانية معتذرا عن انه لا يستطيع أن يعدهم إلا بمزيد من الآلام التي لا بد لهم من تحملها في مواجهة ويلات الحرب. أما وجه الكاريكاتور في المقابلة بين موقف الرجلين، فهو أن تشرشل، قبل أن يتسلح بشجاعة دعوة شعبه الى مزيد من التحمل، كان هو وفريق الحكم المحيط به، يقومون بأقصى ما يمكن من واجبات الدفاع عن الوطن في كل المجالات العسكرية والديبلوماسية والإعلامية. الامر الذي لا وجه للشبه فيه بين ما بذله تشرشل في سبيل وطنه خلال الحرب العالمية الثانية بالذات، وموقف العجز والاستسلام الكامل الذي يقفه أبو مازن وطاقم السلطة المحيط به، أمام الضغوط الاميركية والضغوط الاسرائيلية، المتزايدة والمستمرة في طريق هضم المزيد من الارض الفلسطينية ومن الحقوق الفلسطينية، حتى بدت أرض فلسطين المحتلة في العام 1948، كما المحتلة في العام 1967، وكأنها من ذكريات الماضي السحيق التي على الفلسطينيين، ومعهم العرب، أن ينسوها، ويتعايشوا نهائيا مع الاستيلاء الصهيوني الكامل عليها.
ان مثل هذه التراكمات السياسية المتفاعلة والمتكاملة، تتغلغل في أعماق الجماهير الفلسطينية كما تتغلغل مكونات البركان في الطبيعة، لذلك لم يكن غريبا أن تختلط وتتجاور في هتافات وشعارات التظاهرات الاخيرة في الضفة الغربية، شعارات المطالب المعيشية اليومية الملحة، بشعارات التنديد بعجز السلطة السياسية عن مواجهة الضغوط الاميركية والإسرائيلية.
وعندما بشر محمود عباس الفلسطينيين بأن السلطة لم يعد لديها رصيد مالي تدفع به مرتبات الموظفين كاملة، كان عليه أن يتسلح قبل ذلك بموقف شجاع واحد وقفه في مواجهة الضغوط الاميركية والاسرائيلية عليه. كان عليه أن يتسلح، على الاقل، بموقف ديبلوماسي شجاع، في ملاحقة "إسرائيل" لتخليها عن اتفاقيات جنيف في إدارة الاراضي المحتلة، أو يتسلح بمتابعة قرار المحكمة الدولية عدم شرعية الجدار الفاصل الذي تبنيه "إسرائيل" في الضفة الغربية، أما عندما لا يكون في ترسانة عباس السياسية ما يتفاخر به سوى تكراره الممل لتمسكه بمفاوضات فارغة تحولت الى سلاح بيد "إسرائيل" لابتزاز لا يتوقف للفلسطينيين، فإن عليه ألا يعجب، عندما تتداخل في التظاهرات الجماهيرية، الهتافات والشعارات المعيشية بتلك السياسية.
كأننا أمام مشهد وصول الربيع العربي (بكل مصاعبه وتعقيداته) الى الاراضي الفلسطينية، التي لها على أي حال رصيد تاريخي في هذا المجال، سبق كل مواسم الربيع العربي، في الانتفاضة الاولى، ثم الثانية.
تبدو التظاهرات الجماهيرية الاخيرة في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وكأنها الشرارة اللازمة والكامنة لإطلاق انتفاضة ثالثة، هي أقرب إلى مواصفات الانتفاضة الاولى، التي كانت فيها الجموع الشعبية هي صاحبة التحرك على الارض، وصاحبة القرار السياسي.
* كاتب سياسي ـ لبنان
المصدر: السفير