القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

هل يعني السلام انقراض الفلسطينيين؟!

هل يعني السلام انقراض الفلسطينيين؟!

علاء الدين أبو زينة

في روايته "عائد إلى حيفا"، يصف غسان كنفاني هروب الفلسطينيين تحت القصف، في العام 1948، إلى البحر؛ حيث حملتهم القوارب، بعد أن اضطر بعضهم إلى ترك أولادهم خلفهم، في رحلة باتجاه واحد. وقبل نحو ثلاثة أشهر، غرقت في البحر المتوسط سفينة لاجئين فلسطينيين حاولوا اللجوء ثانية هرباً من القصف في سورية، بعد أن لاحقهم الرصاص الليبي. وتحدثت التقارير عن مصرع 200 فلسطيني غرقاً في هذه الحادثة على الأقل.

الفلسطينيون الباقون بعد التشريد الخارجي والداخلي في مخيم اليرموك، محاصرون، ويموت أولادهم أمام أعينهم من الجوع. وفي لبنان، ما يزال اللاجئون في المخيمات هناك عالقون في محيطات من الأحزان؛ من ذكرى قتلى الحروب الأهلية اللبنانية، إلى ضحايا مذابح صبرا وشاتيلا، إلى ظروف العيش الرديئة والمعاملة اللاإنسانية. وهناك لاجئون فلسطينيون في أماكن أخرى، أحسن أحوالاً على مستوى العيش اليومي، لكنهم أيضاً مشتتون، يتنقلون من غربة إلى غربة، وهم يتفقدون أشواق المواطنة والوطن والهوية والتاريخ في قلوبهم.

الآن، يقترح وزير الخارجية الأميركي جون كيري، خيارات إنهاء مأساة اللاجئين بأي شيء، إلا حق العودة. إنه يريد حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بجعلهم غير فلسطينيين.

عملياً، ستجعل خيارات كيري الفلسطينيين المقيمين على أرضهم تحت الاحتلال غير المشروع، يعيشون تحت احتلال مشروع، في بقعة صغيرة مقطعة موصلة، منزوعة السلاح، ومحاصرة بالأسوار؛ بلا منافذ ولا إمكانات. والآخرون سيختارون -أو يُختار لهم- أوطاناً أخرى وأوصافاً أخرى، وتنتهي صلتهم نهائياً بالبيوت التي يحتفظون بمفاتيحها. يريد كيري ومن يتفقون معه، إعدام فلسطينية الفلسطينيين، ومنح أرضهم نهائياً وللأبد لأناس غرباء، صادف أنهم أبناء البطة البيضاء.

كان يهود القرن التاسع عشر، فالعشرين والحادي والعشرين، يقولون دائماً إنهم "شتات" -يزعمون أنهم لاجئون في بلاد أخرى، ومطرودون من وطنهم. ونعرف نحن والآخرون أن فلسطين ليست وطن أحد من هؤلاء. لم يعش فيها آباؤهم ولا أجدادهم؛ لا يتكلمون لغتها؛ لا يحملون وثائق ملكية أرضها؛ ولا يتقاسمون ملامح أهلها. فقط، بناء على قصة أسطورية لا علاقة لها بالتاريخ، قال هؤلاء إنهم يريدون حق العودة المشروع للاجئين المشتتين. وفي سبيل ذلك، خططوا وعملوا كل شيء، حتى استطاعوا تحقيق "عودتهم" بالطريقة الوحيدة التي يمكن أن يأخذ بها أحد وطن آخرين أو يحتفظ بها بأرض: القوة والسلاح. وبالتدريج، حصلوا على اعتراف العالم، والعرب، والمسلمين وبعض الفلسطينيين، بفكرتهم عن "أرض الميعاد"، "أرض الأجداد"، "أرض إسرائيل" المقدسة والوطن التاريخي لليهود.

لماذا يريد كيري تأكيد أن هؤلاء الناس، المواطنون الأصليون منذ دهور في دولهم الأصلية، التي ولدوا فيها ويحملون جنسياتها وسماتها العرقية وثقافاتها، يحق لهم أن يدعوا صفة لاجئين عادوا إلى وطن الآباء؟ وفي المقابل، يريد من أصحاب فلسطين الذين طُردوا منها بالأمس، ويحكون لغتها، ويحملون مفاتيح بيوتها وأوراق ملكيتها، وملامح أهل منطقتها، أن يبحثوا لهم عن مكان آخر وينسوا أمر الوطن؟ وإذا كان هذا رأيه، فلماذا يكون رأي أي فلسطيني، أو عربي، أو إنساني؟

الفلسطينيون اليوم إما لاجئون أو تحت الاحتلال. ويعرض كيري أن يصبح الفلسطينيون في الداخل فلسطينيين تحت احتلال بشكل آخر، وأن يصبح الذين في الخارج غير فلسطينيين ولا شيء. سوف يعني عرضه اغتيال حق ووطن وهوية وتاريخ كل الملايين من اللاجئين. وإذا كان ما يرشح عن عرضه لتفكيك فلسطينية اللاجئين صحيحاً، فإن هؤلاء سيصبحون مواطنين في دول يُنقلون إليها أو يعيشون فيها، وإنما بلا جذور ولا مطالبات بوطن، ولا صفة أصيلة. وعلى عكس كل مغتربي العالَم الذين يحق لهم أولاً حمل جنسية بلدانهم وحق الإقامة فيها، وحمل جنسية أخرى لا تلغي الأولى، يُطالَب الفلسطينيون بالتخلي عن جنسيتهم الأم، وأن يذوبوا في العالم مثل الملح. إن وضع اللاجئ الحالي، الذي يحتفظ للفلسطيني بجذوره وحقه التاريخي والقانوني في العودة إلى الوطن، أرحم كثيراً مما يعرضه "سلام" كيري ومفاوضوه؛ من نزع حتى هذه الصفة المصحوبة بالأمل، وانقراض شيء اسمه فلسطينيون خارج فلسطين!

اللاجئون الفلسطينيون دائماً مسافرون، يُسلمهم بحر إلى بحر. لكنهم كانوا يتعقبون بوصلة الوطن. والآن، يريدون إسلامهم إلى بحر أخير، بلا عودة ولا قرار، ولا بوصلة!