القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

هناك هويتي

هناك هويتي

روان الباش

داخل أزقة دمشقية مظللة بعطر مخيماتيّ ولدت. في أحضان مخيم اليرموك كان لجوئي. هنا لا أقصد كوني اللاجئة الفلسطينية التي ولدت من أب فلسطيني وأم سورية، بل أقصد لجوئي الذاتي حين كنت أهوى ترك حارات دمشق التي نشأت فيها، والالتجاء إلى ذلك المخيم الموجود أيضاً في حضن المدينة، كنت آوي إليه كي استنشق فلسطينيتي، وأخترع الحجج للتسكع في حاراته. كان المخيم ملاذي كلما تهت عن هويتي، وثورتي كلما عصف غضب الأجداد بداخلي.

بعضهم يرونه وطناً، أما أنا فلم أره كذلك. كان ملاذاً، كان هوية، رائحة الكعك الفلسطيني تجوب الأزقة الضيقة الدافئة، وصوت جدتي وهي تصرخ بأحفادها أمام بيتها: «ولكو إلعبو بعيد». كان المخيم هتافاً يودع الشهداء من حناجر فتيّة ثائرة غير آبهة لمدى صوتها واتساعه: «بالروح بالدم نفديك يا شهيد، بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»، كذلك كان المخيم أهزوجة فلسطينية تزف العريس: «قولو لأمو تفرح وتتهنى.. ترش الوسايد بالعطر والحنة»، وصوت فرقة العاشقين يحيي كل مناسبة في مكاتب الفصائل: «ومن سجن عكا وطلعت جنازة... محمد جمجوم وفؤاد حجازي». التفاصيل الصغيرة تعني لأبناء المخيم مناخاً اعتيادياً؛ فهي من يومياتهم. كانت لي هوية وجذور، ماض ومستقبل. تفاصيل طالما اعتقدتها ثابتة لا تزول، باقية لا تنتهي.

في تلك الزوايا الصغيرة من مخيمي نشأ حلم عودتي لأرضي التي أهدتني تلك التفاصيل، وبدأت أرى ملامح وطن قد أعود إليه يوماً ما. الآن، أنظر إلى صور مخيمي الذي فقد ألوانه. صوت جدتي غاب تحت أنقاض الحارات التي أصبحت ركاماً، وبدل رائحة الكعك انتشرت رائحة الجوع في ثناياه، وتاهت الحناجر الفتية. بعضها سقط تحت التعذيب في سجون النظام، وبعضها الآخر سقط شهيداً بنيران المحاكمات الشرعية التي اخترعتها المعارضة، والحناجر أصابها صراخ صامت من شدة الألم.

ما زلت أعود إلى مخيمي في غربتي. ما زلت أجوب أزقته بمخيلتي، صانعة من بقايا رائحة الكعك عطراً أشمه، أردد الهتافات وحيدة، أستمع إلى أغاني العاشقين، وأعيد نفسي إلى هناك ممتطية رياح الأمنيات. أحاول الوصول إلى الجائعين هناك، لأرتوي من صمودهم، وأشحذ الأمل في داخلي من إرادتهم، فتوقفني البنادق طالبة إبراز هويتي، فأجيبها بثورة عاصفة: هويتي هناك بين المتعبين داخل المخيم، فكفوا عن سحقنا.

المصدر: جريدة الأخبار