القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

وجـــــــوهٌ في غـــــــــزة

وجـــــــوهٌ في غـــــــــزة

بقلم: حسام شاكر

وجوهٌ تحمل فلسطين في صفحاتها، تحكي القصّة في قسماتها. وجوهٌ في الأزقّة، في الأسواق، بين البيوت، في الميادين. وجوهٌ تختزن التجربة، تُصارِع الحاضر، تستشرف الآتي.. وتراه قريباً. وجوه تلقِّن الدروس لكلِّ آتٍ عبر الأسوار والأسلاك، ولكلّ مُنبعث من الشقوق والأنفاق. يجد نفسه في حضرتها هي، فيُبصر الحياة كما لم يدركها غيره، ويتيقّن أنّها الحرّة وغيرها مُحاصَر، وأنّ شمسها ليست ككلّ الشموس، وأنّ قمرها لا ينام بل يُعِدّ عدّته لما هو آتٍ. إنها غزة، فيها تتزاحم الوجوه.. وتتراصّ الروايات. ها هو وجه الأمّ، وجه الجدّة، إذ تحمل على عاتقها بيتاً وأجيالاً، تتنفّس همّاً وأحلاماً. هي الأمّ، هي الجدّة، هي الشاهد على فصول القهر وطبول العدوان، هي من يجسِّد الحقيقة لكلٍّ باحث عنها، عاشت الوقائع كما لم يَعِشْها أحد، واكتوت بنارها فلم تزدها إلاّ شموخاً وعزّة. لا معنى هنا لمسحوق، ولا مغزى لعِطْر، فالصمودُ يورث الوجوه بهاءً ونضارة، وتَنثُر الشهادةُ مِسكَها في كلِّ بيت. لا وقت للحياة الملوّنة.. هنا تكبر الأمّ سريعاً، تغدو جدّة، ولا يفارق الشبابُ روحَها. تشقّ طريقها حاملةً أثقالها، مُعلنة التحدِّي والتأهّب. تحكي روايتها عن تضحيات عزيزة بالدم القاني، في زمن الانشغال بأحمر الشفاه. هنا غزة، هنا الشرف، هنا يُنحَت المصطلح ويُصاغ المفهوم؛ عن "تمكين المرأة"، ودور النساء، والوعي بالحقوق، عن الأمومة والرعاية وصناعة الأجيال. هنا المعهد الكبير لتشكيل الحرية، وفرض الإرادة، وقهر الغزاة، هنا فلسطين محمولة بين ذراعيْ أمّ؛ ذراعيْ جدّة. وها هو وجه الشيخ، يحمل قبساً من نار النكبة، تتناقله الأيدي، جيلاً بعد جيل، ليُضاء به مشعلُ العودة. إنّه هو، هو ذاته بحطّته وعقاله، بيقينه باللهِ القاهرِ فوق عباده، إنه هنا، ينسلّ من المشهد بهدوء.. مطمئنّاً إلى سلامة الوجهة، وواثقاً من بلوغ المقصد، وأنّ الدار التي ما فتئ يذكرها تترقّب أهلها، تتزيّن لهم، لتحتضنهم بعد طول غياب. إنّه يُبصِر العائدين من حوله.. كم كانوا قلّة صبيحة النكبة، وها هو يتوسط جمهرتهم المتكاثرة اليوم، فحُقّ له أن يطمئنّ وقد أدّى أمانته؛ وقد حمل فلسطين لأحفاده، وأوصاهم بها خيراً. وها هو وجه الطفل، وجه الطفلة، في ملعب بلا ألعاب، بين زحام البشر المُثقلين بالأعباء، بين العربات والمارّة، بين الخنادق والمدافن. كبارٌ هم.. أبصروا جميعاً حروباً وفظائع، انغمسوا في الدم، داعبهم القصف في مراقدهم، يحفظون قصص الضحايا، يتلون آيات الشهادة، يَنْظُمون شعراً يَنضَح كفاحاً.. هم أطفال غزّة، محشورون في سجنهم المُطلّ على المتوسط، منسيّون في بؤرة الدنيا، منزوعة منهم البسمة،.. ولا ينكسرون. تتراءى فلسطين لهم كما لم تفعل من قبل، تبتسم لهم قبل النوم، تحكي لهم الحكاية. هم من نحتتهم الانتفاضات والثورات، وصاغهم جوعُ الأحرار. يهزؤون بآلة الحرب والترويع، ويتوعّدون المحتل: "موعدنا وإيّاه في قابلات الأيّام.. فانتظر إنّا متأهِّبون". هم أطفال غزة؛ مَن رحل منهم ومن بقي، جميعهم هنا. تبحث عنها فتجدها. لم تزل "إيمان" رضيعة من يومها، لم تزل في شهرها الرابع، لم تزل محمولة على الأكُفّ المفجوعة، تسكن أضلعاً تحوي ألف طفل سحقتهم الصواريخ وبدّدتهم المدافع؛ معروفة أسماؤهم؛ محمولة صورهم؛ محكيّة ذكراهم. هي غزة بأطفالها؛ من كلِّ درب يخرجون، ويتبَرعَمون، لا يزيدُهم شهداؤُهم إلاّ كثرة، ولا تُورْثُهم حروبُ القهر إلاّ عِزّة. إنّها غزة. معها ينعقد اللسان، وفي حضرتها تجفّ المحبرة، تُعَلِّم من يحطّ رحاله فيها أنّ عالمه صغير، صغير حقّاً. إنها غزة،.. بوجوهها، بشموخها، بشعبها الذي لا ينكسر، بعزيمتها التي لا تنضب، بروحها المؤمنة، ببسالتها في الميدان؛ هي من يَكتُب التاريخ، ويَصنع المستقبل للإنسانية، ويُعَلِّم الأممَ أنّ للحياة معنى ومغزى ورسالة. في غزة، يتبرعم الأمل كلّ صباح، ومنها تشرق الشمس على فلسطين، وتحمل لها البشارة.

المصدر: مجلة العودة، العدد السادس والستون