.. وما زال البحث جارياً
بقلم: ياسر أحمد علي*
حرصتُ على قراءة مخطوط كتاب الأستاذ محمود عبد الله كلّم ومقدماته وتفاصيله، وأسعدتني الثقة التي محضني إياها الكاتب، بتكليفي بكتابة هذا النص ليختم به الكتاب العتيد.
حين يكتب كلّم عن شاتيلا فإن كتابته تعتبر مصادر بحثية، من قلب الميدان. فهو حين يكتب عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي السيئ في شاتيلا، لا يحتاج إلى مصادر إذ إنه يرى أثره كل يوم في المخيم. وكذلك حين يكتب عن العمران العشوائي المتصدع، فبيته في أحد هذه الأبنية ويعيش هاجس الخوف على أبنائه. وهو كذلك حين يكتب عن التعليم، كان مشرفاً على عدد من أبناء شاتيلا الذين تفوقوا في الامتحانات الرسمية. وهو كذلك حين يكتب عن اللجان والهيئات التي تشكلت لإصلاح أوضاع المخيمات، فقد كان أحد الفاعلين في هذا المجال والمتابعين لأوضاع أهلنا في شاتيلا. وحين يكتب عن المجزرة، يكاد لا يجاريه أحد في معرفة أدقّ التفاصيل المتعلقة فيها، فهو يسكن في منطقة المجزرة، وجيرانه وأصدقاؤه ضحاياها وشهودها، بل حجارة وعتبات وأبواب بيته يعرفون ما جرى، فضلاً عن أنه صاحب كتاب «صبرا وشاتيلا.. ذاكرة الدم».
الجانب السلبي في مصدرية محمود كلّم الميدانية، تبرز في قلّة مراجعه المكتوبة أحياناً، واندماجه في مشاكل مجتمع المخيم ومعايشته ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا إلى حد يستحيل الخروج منها إلى الموضوعية العلمية والكتابة البحثية الأكاديمية. وهذا الكلام في هذا المقام يعتبر ذماً في القيمة العلمية للنص، ولكنها هنا تمييز للكاتب الصديق محمود عن غيره من الكتّاب. لذلك فإن ما يختزنه من ذاكرة وقصص أنتجتها المجزرة يجعله قادراً على تقديم الجديد في كل ما يكتبه عن المجزرة في كل عام. وهذا ما بات ملحوظاً في تناولاته ومقارباته المتعددة لظروف المجزرة وقصصها ومآسيها.
فمعرفتي بالكاتب دلّتني على أنه ليس محترفاً ولا تَرِفاً في كتابته، بل مؤمناً وخادماً لما يكتب، ولا يكتب إلا ما يؤمن به.
* * *
من يقرأ تاريخ ومراحل تشكّل مخيم شاتيلا، يدرك أن هذا المخيم الصغير كان نصيبه كبيراً في «التراجيديا» الفلسطينية، ولا أقول «التغريبة»، فهذا المخيم تحديداً تخطى مستويات التغريبة إلى التراجيديا!
من مخيم صغير غير معترف به، شاءت الأقدار أن يكون أقرب مخيمات اللاجئين إلى بيروت (مخيم مارالياس في قلب بيروت)، فكان بوابة حزام البؤس من جهته الجنوبية، يفرغ نهاراً حين ينطلق كل صباح العمال الفلسطينيين المياومين، ثم يمتلئ ليلاً..
عاش المخيم المضايقات من كل الجهات، واحتاج أهله إلى تراخيص لكي يتنقلوا وكي يحسّنوا بيوتهم وكي يعملوا وكي يزوروا الأقارب.. ثم جاءت المرحلة الثانية فإذا بأبنائه يشاركون مع الثورة الفلسطينية في نضالها في الستينات والسبعينات، وتشاء الأقدار أن تكون بوسطة عين الرمانة عائدة من تشييع شهيد في شاتيلا، واعتدى عليها اليمين اللبناني فكانت الشرارة التي أشعلت الحرب اللبنانية. وتعرض المخيم لعدة نوبات قصف عشوائي في أثناء الحرب أدّت إلى مقتل العديد من أبنائه.
نال المخيم حصته الكبرى في المجزرة الأشهر والأكبر في تاريخ الحرب العربية الصهيونية، وكانت المجزرة التي فضحت الكيان الصهيوني بشكل صارخ، ولم تستطع حتى البي بي سي أن تجد صهيونياً بريطانياً واحداً يدافع في برنامج إذاعي عن وجهة النظر الصهيونية، فاستضافوا يومها أمريكياً.
وقد عاش المخيم، نكبات أخرى بعد المجزرة، من اعتقالات رجاله على يد السلطة اللبنانية عام 1983، ونشوب حرب المخيمات ثم الحرب الداخلية التي راح ضحيتهما 587 شهيداً داخل المخيم، فضلاً عن الشهداء الذي سقطوا خارجه.
واليوم، يعيش أبناء هذا المخيم، الأحوال الضيقة ذاتها التي يعيشها أبناء الشعب الفلسطيني في لبنان. في كل عام تتسابق الوفود والشخصيات الرسمية اللبنانية والأجنبية لزيارة مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا، ثم يعود الوضع إلى ما كان عليه، حرمان من العمل والتملك والبناء و.. و.. الشكوى لغير الله مذلة!
* * *
أرى أنه بالإضافة إلى الشهادات الميدانية لا بد من التعريج بشكل سريع على الرؤية القانونية والدولية لما جرى باختصار، والنتائج المترتبة عليها، حيث أن المجزرة لم تنته فصولها بعد، حتى لو مات شارون.
فهَرَباً من تحقيقات لجنة دولية، شكل الكيان الصهيوني لجنة كاهان (1982)، مباشرة بعد مجزرة صبرا وشاتيلا (أول مجزرة مُتلفزة). نتج عن هذه اللجنة إزالة التهمة عن الجيش الصهيوني، و«تنظيف الدولة من إرهابها»، وكانت العقوبة القصوى هي تحميل شارون جزءاً من المسؤولية، وسُحبت منه حقيبة وزارة الدفاع، وعاد وزيراً للبنى التحتية، ثم أصبح رئيساً للوزراء لاحقاً.
كما برأ المجتمعُ الصهيوني نفسه (وضميره) بمظاهرة ضخمة في تل أبيب، وعادوا من التظاهرة كمن اغتسلوا من الذنب تجاه إحدى أبشع مجازر العصر، وما لبث هذا المجتمع نفسه لاحقاً أن انتخبوا بعد عقدين من الزمن أرييل شارون رئيساً للحكومة الصهيونية، كما هو الحال بالنسبة لمناحيم بيغن الذي أصبح رئيساً للحكومة الصهيونية، رغم كونه قائداً لعصابات الأرغون (مجزرة دير ياسين)، وخليفته إسحق شامير قائد عصابات شتيرن (عملية فندق الملك داود).
يقول عبد الوهاب المسيري في موسوعته:
وبينما استمرت المذبحة طوال يوم الجمعة وصباح يوم السبت أيقظ المحرر العسكري الإسرائيلي رون بن يشاي أرييل شارون وزير الدفاع في حكومة مناحيم بيجين ليبلغه بوقوع المذبحة في صبرا وشاتيلا فأجابه شارون ببرود: «عام سعيد». وفيما بعد وقف بيغن أمام الكنيست ليعلن باستهانة: «جوييم قتلوا جوييم... فماذا نفعل؟» أي «غرباء قتلوا غرباء... فماذا نفعل؟».
ولقد اعترف تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية بمسؤولية بيغن وأعضاء حكومته وقادة جيشه عن هذه المذبحة استناداً إلى اتخاذهم قرار دخول قوات الكتائب إلى صبرا وشاتيلا ومساعدتهم هذه القوات على دخول المخيم. إلا أن اللجنة اكتفت بتحميل النخبة الصهيونية الإسرائيلية المسؤولية غير المباشرة. واكتفت بطلب إقالة شارون وعدم التمديد لرافائيل إيتان رئيس الأركان بعد انتهاء مدة خدمته في أبريل 1983.
ولكن مسؤولاً بالأسطول الأمريكي الذي كان راسياً قبالة بيروت أكد (في تقرير مرفق إلى البنتاجون تسرب إلى خارجها) المسؤولية المباشرة للنخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية وتساءل: «إذا لم تكن هذه هي جرائم الحرب، فما الذي يكون؟». وللأسف فإن هذا التقرير لم يحظ باهتمام مماثل لتقرير لجنة كاهان، رغم أن الضابط الأمريكي ويُدعَى وستون بيرنيت قد سجل بدقة وساعة بساعة ملابسات وتفاصيل المذبحة والاجتماعات المكثفة التي دارت بين قادة الكتائب المنفذين المباشرين لها (إيلي حبيقة على نحو خاص) وكبار القادة والسياسيين الإسرائيليين للإعداد لها.
لقد كان رأي أغلبية أعضاء اللجنة الدولية التي حققت في الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي خلال غزوها لبنان بأن هذه المذابح كانت مذابح إبادية. واستخدام تعبير «تواطؤ في الإبادة الجماعية» كاف لتحميل «إسرائيل» مسؤولية الجرائم. وبخلاف الجرائم الدولية مثل حروب العدوان حيث تكون الدولة فقط هي المسؤولة، فإن جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الأمن والإنسانية تحمّل مسؤولية فردية. ومن هنا، أوصت اللجنة المستقلة محاكمة المتورطين في تنفيذ وتخطيط وتسهيل تلك المجازر.
أرييل شارون يومها أقام في الطابق الرابع في أحد مباني الضباط التابعة للجيش اللبناني قرب السفارة الكويتية المرتفعة والقريبة من مكان المجزرة والمطلّة عليه.
القضية بالطبع لم تنته، فما زال رأس مرتكبي الجريمة مطلوباً في عدد من الدول، وما زالت التطورات في القضايا تظهر، وما زال هناك مئة مخطوف أو مفقود فقدوا في أثناء المجزرة (66 فلسطينياً، 13 سورياً، 11 لبنانياً، 6 قيد الدرس، 3 مصريين، وبريطاني واحد)، الذين ستبقى المطالبة بهم قائمة ويتحمل مسؤولية اختفائهم كل من كانت له يد في تنفيذ المجزرة.
* * *
نعود إلى كتاب الأستاذ محمود كلّم. أقول أن ما كتبناه لم يغب عنه في كتابه المختص بالمجزرة، ولكنه اختصر هنا كي لا يملّ القارئ، فمن يريد زيادة في التفاصيل (المواقف والبيانات والقرارات) يمكنه الرجوع إلى ذلك الكتاب.
وعطفاً على ما ذكرناه عن أسلوب الكاتب، فإن مواضيع كتبه هي القضية التي يحملها ويعمل لأجلها، وقد ظهر ذلك في أبحاثه حول مجزرة صبرا وشاتيلا وعدد ضحاياها، فهو لم يعتبر أن كتابه وإحصاءاته بالأسماء الدقيقة وغير المكررة قد أدى قسطه للعلا، بل استمر في بحثه عن أسماء الضحايا وإضافتها إلى أرشيفه، دون أن يكون ذلك بنيّة إنجاز طبعة ثانية من كتابه. فقد حمل قضية المجزرة وتابع البحث فيها فنقّح الأسماء وزاد عليها.
وبالمقارنة بين أعداد الشهداء بين كتابه الذي أنجزه في عام 2003، وكتابه الذي سلّم جدولاً تابعاً له بأسماء شهداء المجزرة في بدايات عام 2008، سنجد التالي:
زيادة عدد الشهداء بعد البحث بين 2003-2008
|
2003 |
2008 |
الزيادة |
شهداء فلسطين |
262 |
303 |
41 |
شهداء لبنان |
131 |
205 |
74 |
شهداء سوريين |
49 |
56 |
7 |
شهداء قيد الدرس |
41 |
45 |
4 |
شهداء مصريين |
12 |
14 |
2 |
متفرقون |
7 |
9 |
2 |
المجموع |
502 |
632 |
130 |
بعد خمس سنوات من طباعة كتابه الأول عن مجزرة صبرا وشاتيلا، حتى اليوم، بلغ عدد الضحايا الذي جمع الكاتب أسماءهم وتفاصيل هويتهم مئة وثلاثين شهيداً مرشحين للزيادة، لذلك فإن التوقف عن البحث في أسماء الشهداء وتفاصيل هوياتهم لن يكون خياراً ذكياً، بل يجب أن يظل مستمراً بالتوازي مع النشاط الدولي والقانوني الذي لا بد أن يحفر في جبين الإنسانية قراراً ما زال عالقاً في ضميرها وحلقها إلى أن يعود الحق إلى أصحابه ويعاقب المجرمون ويجرّوا إلى المحاكمة.
من أجل ذلك كله:
ما زال البحث جارياً. وسيظل كذلك!
* كاتب وشاعر فلسطيني
المصدر: خاتمة كتاب «شاتيلا.. لحن الكفاح