يوم الأرض ومؤتمرات القمة
العربية
بقلم: حسن صافي المسالمة
لقد مر على انتفاضة يوم
الأرض سبعة وثلاثون عاماً، يوم قام الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 م بالانتصار
لأنفسهم وأرضهم، والتي صادر الاحتلال معظمها، حيث تجاوزت مساحة الأراضي المصادرة والتي
يملكها المواطنون الفلسطينيون في الجليل والمثلث المليون دونماً، وكان آخرها ما مساحته
واحد وعشرون ألف دونماً، من أراضي عرابة وسخنين ودير حنا من قرى الجليل الأوسط، والتي
أصبحت تعرف فيما بعد : مثلث يوم الأرض.
أعلن المواطنون الإضراب
العام في الجليل والمثلث، وانطلقوا في مظاهرات حاشدة لمواجهة تلك الهجمة الاستيطانية
على أراضيهم والتي تهدد وجودهم وبقاءهم، وتصدت لهم قوات الاحتلال جيشاً وشرطةً، حيث
أطلق على المتظاهرين العزل الرصاص الحي، فارتقى ستة شهداء إلى ربهم، يشكون ظلم المحتل،
وتقاعس الإخوة والأهل عن النصرة لهذا الوطن المغتصب، والشعب الأسير. إن يوم الأرض كان
إحساساً عميقاً من أبناء الشعب الفلسطيني بالخطر الداهم الذي يهدد الأرض والإنسان،
ومشعل نور على طريق الجهاد المتواصل ضد الغاصبين والمحتلين، وتأكيداً للعدو أن هذا
الشعب قادر على المواجهة والتضحية في سبيل استرداد أرضه، وانتزاع حقه مهما بلغت التضحيات
بالدم والأرواح. لقد كان يوم الأرض حصيلة تراكمات لمقاومة الشعب الفلسطيني، منذ استيلاء
المحتل على الأرض، وتشريده لأهلها في شتات الأرض، لاجئين يتجرعون مرارة الغربة والضياع،
مراهنة من المحتل أن الكبير سوف يموت وأن الصغير سوف ينسى. ولكن، ما لبثت عجلة الزمان
أن تدور، وإذا بهذا الشعب الحي والذي لن يموت إلا عزيزاً كريماً، وبعد عقد من الزمان
تقريباً، يعلن عن انتفاضة جديدة عام 1987 م، لتكون إحياءً ليوم الأرض، ولدماء الشهداء،
واستمراراً لجهاد ومقاومة هذا الشعب العظيم،بأبطاله ورموزه جميعاً، مؤكداً عمق جذوره
في ثرى وطنه العزيز. وهكذا يستمر الشعب الفلسطيني في جهاده ومقاومته، متنقلاً من مرحلة
إلى أخرى، حتى يأذن الله سبحانه بالتحرير لكامل أرضه، وانتزاع كامل حقوقه، لا يرهبه
جبروت العدوان، ولا طغيان العدو. لقد أثبت هذا الشعب أنه متقدم على غيره من الشعوب
في صبره وثباته ومقاومته، وأنه لن يكون سهلاً في مواجهة عدوه، فإن الذي يقدر على تقديم
الأنفس والأرواح، ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل حرية وطنه، وعزة أبنائه وكرامتهم،
يقدر على الصمود والتصدي والتحدي حتى تحقيق أهدافه. وإذا كان يوم الأرض يوماً في مواجهة
مصادرة الأرض واستيطان العدو فيها، فإن مبررات يوم عظيم للأرض ما زالت قائمة ومتعددة،
فمصادرة الأرض من قبل العدو قد تجاوزت كل الحدود، وفاقت كل التصورات السابقة، حيث إن
عمليات المصادرة والتهويد طالت كل المواقع، وتجاوزت كل المقدسات، حتى بلغت كل شبر في
القدس، من الأقصى وحتى مقبرة مأمن الله، فوق الأرض وتحت الأرض، وليس القدس فقط، بل
كل بقعة في أرضنا المقدسة، حيث لم يسلم شجر ولا حجر، ولا أرض مأهولة أو غير مأهولة،
فالتجريف والهدم والدمار قد وصل كل الأماكن، ونبتت المستوطنات في كل مكان، فحاصرت المدن
والقرى، وضيقت الخناق على الإنسان والنبات والحيوان، حتى أصبح الشعب الفلسطيني سجيناً
في مدنه وقراه، التي أحاطها العدو بجدران وبوابات، يغلقها متى يشاء ويفتحها متى يشاء.
إن مصادرة الأراضي والتي دأب العدو عليها منذ وجوده، قد تضاعفت بشكل عظيم منذ اتفاقية
أوسلو التي ما عادت على شعبنا بخير، حيث تضاعف كل فعل للعدو ضدنا، من قتل واستيطان
ومصادرة للأراضي، واعتقالات واغتيالات لم تستثن أحداً، حتى الأطفال والنساء والكهول،
ولو كنا قبلنا بما فعله السادات من اتفاقيات مع الإسرائيليين في كامب ديفيد، والتي
اعتبرها كل العرب خيانة، لَما استطاعت اسرائيل كل هذا الفعل اليوم، ولَما تضخمت المستوطنات
كل هذا التضخم. فهل يصبح يوم الأرض يوماً كبقية الأيام التي نحتفل بها في كل عام ؟
وفي ختام الاحتفال يتفرق الجمع ولا يعود أحد يذكر شيئاً، لأن التذكر يورث القلق ويُصَدِّعُ
الرأس، ويشعر بثقل المسؤولية التي قصرنا في تحملها ؟ إن يوم الأرض يأتي عاماً بعد عام
وقد ذهب من الأرض أكثرها، فهل يأتي يوم الأرض عاماً ولم يبق من الأرض أرض ؟ ففي خضم
صراعاتنا الداخلية، حول الأوهام التي نعيشها، والمسميات التي نحملها، والألقاب التي
نوصف بها، وتسابقنا على الفتات الذي تجود به علينا أمريكا ودول الغرب الأخرى وإسرائيل،
يضيع ما تبقى من الأرض، وتتقلص مساحات أحلامنا بالعودة والتحرير والاستقلال، وكأن حالنا
يشبه إلى حد كبير حال دول وملوك الطوائف في الأندلس قبل ضياعها بالكامل من أيدي المسلمين،
والذين بنوا فيها دولة وحضارة استمرت أكثر من ثمانية قرون، ما زال الغرب يبني ويتقدم
على ما ورثه منها.
فقد نسي الأحفاد من المتهالكين
على الدنيا ومكاسبها في الأندلس، جيل التأسيس ممن فتحوا وجاهدوا وأسسوا وبنوا وعمَّروا،
وانشغلوا بالصراعات الداخلية التي أنهكت الأمة هناك، وقَسَّمَت الناس بين ملوك الهزيمة
والاندحار، الذين سلَّموا الأندلس لُقمة سائغة للأعداء، ففقدت الأمة جنة ومنارة شامخة
للعلم والحضارة، جعلتنا نعيش في ظلمات الجهل بعدها قروناً وإلى اليوم، ولقد صدق الشاعر
الذي تحدث عن ملوك ذلك العصر بقوله :
مما يُزَهِّدُني في أرضِ
أندلسٍ أسماءُ معتضدٍ فيها ومعتمد
ألقابُ مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
ونحن اليوم على المستوى
الداخلي، والعربي والإسلامي، نعيش عصر ملوك الطوائف، وكل ملكٍ فرحٌ بمملكته، وكل فريق
يتبعه يظن أنه المخلص وأنه المعز المذل، الخافض الرافع، رغم أن سيرته لا تسجل عزاً
ولا انتصارات. وأكادُ أجزمُ أن الشعوب العربية والإسلامية، قد كفرت بملوك الطوائف وأتباعهم،
والذين حسبوا أنفسهم أسياداً لتلك الشعوب، وأن الشعوبَ عبيدٌ لهم، رغم أنهم لا يعدون
من تلك الشعوب إلا قليلاً. ونحن في هذه البلاد المقدسة، ورغم الاحتلال المتواصل عقوداً،
ما حنينا الرأس يوماً، وما بخلنا بأرواحنا ودمائنا في سبيل تحرير أرضنا وإنساننا، فهل
يظن ملوك طوائفنا أننا سنصبر طويلاً على ما نحن فيه، من ضياعٍ وانقسام ؟ فماذا سيصنعون
لنا في مؤتمر قمتهم القادم والذي يُعقدُ في ذكرى يوم الأرض ؟ وقد عُقد في عام 2002
م، في ذكرى يوم الأرض أيضاً، وهم في بيروت مجتمعون، والقوات الإسرائيلية تجتاحُ الأراضي
الفلسطينية، تقتل وتدمر وتعتقل، ويحاصر رمز القيادة الفلسطينية في رام الله، رئيس دولة
فلسطين المرحوم ياسر عرفات، ولم يُحركوا ساكناً، ولم يستطع أيٌّ منهم فك الحصار عن
قيادة الشعب الفلسطيني التاريخية، بل إنهم قد جادوا بكرمٍ حاتمي على شارون وإسرائيل،
بما سمي مبادرة السلام العربية، والتي يحاولون بعثها من جديد، والقدس تُهود، والأقصى
يسير نحو الهدم لإقامة هيكلهم المزعوم، والمستوطنات تكاد تستنزف ما تبقى من الأرض،
والحصار يشتد في الأرض والمال والحركة، ونكاد نفقد ما تبقى من أشجار زيتوننا ومزارعنا.
وأُذَكِّرُ زعماء وملوك الطوائف، لقد اجتاحت إسرائيل الأراضي الفلسطينية، وحاصرت القيادة
والشعب، وفعلت ما فعلت، ودمَّرَت مخيم جنين، وقتلت المئات، وشرَّدَت الآلاف،وأبعدت
مَنْ أبعدت، وبقي الحصار على الرئيس عرفات رحمه الله حتى اغتياله، وكان الرد من مؤتمر
القمة العربي طرح مبادرة السلام العربية، والتي تتنازل عن معظم فلسطين التاريخية، وفتح
أبواب العالم العربي والإسلامي للدولة الإسرائيلية تسرح فيها وتمرح حيث شاءت، ورغم
ذلك لم تقبل إسرائيل، لأن طموحاتها أكبر من ذلك.
فماذا ستكون المبادرة العربية
الجديدة ؟ وسكان القدس تُهدم بيوتهم، ويدفعون للاحتلال أجرة هدمها، أو يَهدم مَنْ لا
يملك المال، بيته بيده، أو يُسجن، لأنه لا يملك دفع ما يُفرض عليه من غرامات، وذلك
بحجة البناء بدون ترخيص، وكأن الاحتلال يمنح فلسطينياً ترخيصاً للبناء ؟ ومَنْ يسكن
بيته القديم يأتيه أمرٌ بهدمه، أو يُبلغُ بهدمه بحجة عبور شارع جديد يخدم المستوطنات،
أو من أجل حديقة عامة أو متنزه، ثم ماذا سيكون قرار القمة، بالنسبة للأسرى الذين أعلنوا
الإضراب عن الطعام حتى نيل حريتهم أو الشهادة ؟ وما قرار القمة أيضاً بالنسبة للأسيرات
اللواتي يقبعن في سجون الاحتلال ؟ أو الأطفال الذين تجاوز عددهم المئات ؟ والتساؤلات
لمؤتمر القمة العربية كثيرة، ونحن على يقين أنه لا إجابات لها.
الأرض لا يحرثها إلا أصحابها،
والأرض لا يعمرها إلا أهلها، فيا يوم الأرض صبراً، فهذا الشعب لن يموت، وصبره بإذن
الله لن يطول.
المصدر: وكالة معا الاخبارية